لأنه ليس هناك من تقدير كاف للعواقب الوخيمة، وبسبب التعامل مع الأمور الهامة من دون مبالاة وبإهمال، حينها تقع الفأس في الرأس، وحتى وان وقعت فالتحرك لا يكون الا بخجل، لذلك ستبقى القدس لقمة سائغة للاحتلال، تهوّد، ويعتدى عليها وعلى مقدساتها ومواطنيها.
سبق وحذرنا كثيراً في البيادر من مغبة اهمال القدس، وقلنا يجب أن نسارع الى انقاذها قبل فوات الأوان وقبل وقوع الفأس في الرأس.. سنوات وسنوات ونحن نقرع ناقوس الخطر، ولكن ما من مجيب!! يسمعون ولكنهم لا يصغون، يرون ولكنهم لا يبصرون، وقد انطبقت عليهم الآية الكريمة " لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ". [الأعراف:179].
نعم غفلوا عما يحدث وتجاهلوا كل النداءات للدفاع عن أقدس مدينة في العالم.. رغم انهم لا يتركون مناسبة الا ويطلقون الشعارات الرنانة التي ملأت كل وسائل الاعلام، خطب منمقة ومؤتمرات وندوات عدة، ومن يسمعهم يظن ان القدس على قاب قوسين أو أدنى من التحرر..
فمع منتصف شهر آذار الماضي طلعت علينا صحيفة هآرتس بخبر وقع على رؤوسنا كالصاعقة، ومفاده أن جمعية "عطيرت كوهانيم" الاستيطانية استكملت امتلاك جزء كبير من مبنى البريد في شارع صلاح الدين، اشترته من شركة "بيزيك"، وقد طالبت الجمعية المساعدة في التبرعات من أجل استكمال ترميمه واقامة مدرستين احداهما دينية والأخرى تمهيدية للخدمة العسكرية .
ومن منا من لا يعرف مبنى البريد الذي يقع في موقع استراتيجي في القدس العربية، ويطل على أربعة شوارع، أهمها شارع صلاح الدين، وعلى باب الزاهرة، هذا المبنى الذي يعتبر من أحد معالم القدس والذي بنته الحكومة الأردنية كمركز للبريد قبل احتلال القدس عام 1967، واستولت عليه اسرائيل بعد حرب حزيران، باسم حارس أملاك الغائبين، وباعت قسما منه لشركة "بيزك"، وتستخدم الشرطة الاسرائيلية جزءاً آخر، بالاضافة الى البريد.
علمنا أن شركة "بيزك" قد وضعت اعلان لبيع حصتها في المبنى لمدة عام، ولكن لم يكترث له أحد، لتكون النتيجة أن يتم الاستيلاء عليه من قبل المستوطنين لينزرعوا في قلب شارع صلاح الدين، وفي قلب القدس العربية كخنجر في قلبها وقلوبنا.
قضية هذا المبنى تذكرنا بقضية فندق مار يوحنا الذي يقع قرب كنيسة القيامة في حارة النصارى، والذي تم تسريبه الى المستوطنين عام 1990 ، بعد أن عرض مستأجره المحمي على القوى الوطنية شراء حقه في التصرف في المبنى مقابل نصف مليون دولار، ليكون بديلاً عن مستشفى الهوسبيس الذي أغلق عام 1989، ولكن للأسف لم تؤمّن القوى الوطنية المبلغ، فباعه وترك القدس والجميع يتفرجون، وعندما وقع الفأس في الرأس أخذوا بالتباكي عليه والحراك من أجل استعادته، تماما كما يتباكون الآن على مبنى البريد، ولكن ماذا ينفع البكاء بعد فوات الأوان، وتحميل اللوم على هذا وذاك، فحتى هذه المرة لم نجد أي حراك احتجاجاً على الاستيلاء على هذا المبنى الهام..
المباني العربية في القدس تسرب بطريقة أو بأخرى، بعضها بالترهيب أو الترغيب، وبعضها بتزييف المستندات، وأخرى بالاستيلاء الرسمي عليها بحجة أو بأخرى. سنصحو في أحد الأيام لنجد أننا لا نملك شيئاً في القدس، وبخاصة في البلدة القديمة، التي سمعنا ان العديد من عقاراتها سربت والاستلام سيتم عند المفاوضات حول القدس، ليستخدمها الاحتلال ورقة رابحة من اجل اتمام السيطرة الكلية عليها..
كم تألمنا ونحن نسمع أناشيد فرح عبرية تنطلق من مبنى البريد، فمؤسستنا تقع قبالته، وتألمنا أكثر وقد أصبحنا نشاهد ذوي "الكيبا" يتجولون أمام المبنى بكل عنجهية وغطرسة ينغصون علينا حياتنا وحياة كل من هم حول البريد .
نتألم ونحن نسمع أن الملياردير اليهودي موسكوفيتش يتبرع بالملايين للاستيطان في القدس العربية، ومن أمثاله كثيرون. الحكومة الاسرائيلية رصدت 405 مليون شاقل اضافي لبلدية القدس الغربية لتحسين ملامح المدينة للسنوات الخمس القادمة، ونير بركات، رئيس بلدية القدس الغربية، استطاع جمع مبلغ 500 مليون شاقل خلال الخمس سنوات الأولى من رئاسته للبلدية، أي بمعدل 100 مليون شاقل سنوياً، بينما ميزانية وزارة شؤون القدس التابعة للسلطة لا تتعدى 25 مليون شاقل، ورغم ذلك وقلة هذه الميزانية فان السلطة حتى لا تؤمن كامل المبلغ لها. فهل هذا يعقل!! هم يرصدون ما استطاعوا من الملايين من أجل القدس، والسيطرة عليها، وتأكيد وجودهم فيها وتهويدها ونحن نبخل عليها بالقليل! فهل هذا ما تستحقه القدس فقط؟!! فحتى الدعم المعنوي يبخلون به على أهل القدس.. وهو حتى أشد وطأة عليهم من قلة الدعم المادي.
الى متى سنظل ننتظر للتحرك الفعلي الجاد من أجل القدس.. فقد فات زمن التباكي والفأس تقع كل يوم في الرأس مع كل مبنى يتم الاستيلاء عليه، ومع كل قطعة أرض تصادر، ومع كل مبنى يتم هدمه للمقدسيين، والأهم من ذلك مع الخطر الذي يتهدد مقدساتنا كل يوم وبخاصة المسجد الأقصى المبارك..
انها صرخة في الزمن الضائع نطلقها لعل وعسى أن يكون هناك من يسمعونها ويسارعون للدفاع عن القدس، قبل فوات الأوان.