اجراءات اسرائيلية استفزازية انتقامية ضد المقدسيين
خشية اسرائيلية من انتقال المواجهات الى مختلف الساحات الداخلية
خلال الفترة القليلة الماضية وقعت سلسلة من الاحداث في مدينة القدس وما حولها مما حدا بكثيرين القول بأن انتفاضة ثالثة على الأبواب، وان الأوضاع تتجه نحو مزيد من التصعيد في التوتر، وخاصة نتيجة الاقتحامات "الاسرائيلية" الاستفزازية اليومية للحرم القدسي الشريف. وهذه الاقتحامات أدت أيضاً الى اندلاع مواجهات شبه يومية في شوارع وازقة القدس القديمة، وكذلك في أحيائها المختلفة.. ما هي هذه الأحداث ومن المسؤول عنها؟ وما المتوقع؟ والى أين يتجه الوضع، هل نحو المزيد من التوتر أو الى التهدئة؟ هذه الاسئلة وغيرها تطرح الآن بين المواطنين والمراقبين والسياسيين، والاجابة عليها ليست سهلة لأن المتغيرات عديدة، والمعطيات غير مستقرة أو ثابتة.
أهم الأحداث
أهم هذه الأحداث التي شهدتها القدس خلال الفترة الماضية عديدة وكثيرة، ولكن يمكن اجمال أهمها بالآتي:
1. الاقتحامات اليومية للحرم القدسي الشريف من قبل المستوطنين، ووقوع مواجهات داخل ساحات الحرم.. وهذه الاقتحامات تتم بحراسة الشرطة الاسرائيلية. وقد توسعت المواجهات لتشمل أحياء القدس القديمة، أي في محيط ما حول الحرم بسبب فرض قيود اسرائيلية بمنع دخول الشبان للحرم لأداء الصلاة، وخاصة ما بين صلاة الفجر وحتى قبيل صلاة الظهر.. ووضع قيود أيضاً أيام الجمعة على دخول المصلين للحرم.
2. قيام أحد الشبان الفلسطينيين ابن القدس وهو عبد الرحمن شلودي (21 عاماً) يوم 23/10/2014 بعملية دهس للركاب المنتظرين عند احدى محطات القطار الخفيف مما أدى الى مقتل طفلة وسائحة، وكذلك اصابة اكثر من عشرة اسرائيليين، وقد وقع الحادث في منطقة الشيخ جراح بالقدس. وقد قامت القوات الاسرائيلية باطلاق النار عليه مما الى استشهاده. وهذه العملية المقاومة اشعلت نيران المقاومة في مدينة القدس بتصعيد المواجهات الليلية ضد الاحتلال الاسرائيلي.
3. قيام الشاب ابراهيم العكاري (48 سنة) من القدس بعملية دهس لجنود اسرائيليين ومواطنين اسرائيليين في القدس مما أدى الى استشهاده، وذلك يوم 5/11/2014، ووقعت حادثة في نفس اليوم (5/11/2014) اذ قام مواطن بحادث دهس قرب العروب ادى الى جرح 3 جنود، وقام سائق الشاحنة بتسليم نفسه اذ تبين ان الحادث عرضي (حادث سير) ولم يكن حادثاً أمنياً.
4. قيام شاب من نابلس بطعن جندي اسرائيلي يوم الاثنين 10/11/2014 وسط تل أبيب مما ادى الى مقتل الجندي.. وبعد ساعات قام الشاب الاسير المحرر ماهر الهشلمون بطعن ثلاثة مستوطنين قرب غوش عتصيون جنوب بيت لحم.
5. قام الشاب الاسير المحرر معتز حجازي باطلاق النار على أحد قادة الجمعيات الاستيطانية المتطرفة التي تدعو الى الاستيلاء على الحرم الشريف، وهو يهودا غليك، مساء يوم الأربعاء الموافق 29/10/2014 قرب مركز بيغن للتراث. وقد أصيب الحاخام غليك باصابات خطيرة. وقامت قوات الاحتلال بتصفية حجازي في منزله في حي الثوري بالقدس بالادعاء أنه وراء محاولة الاغتيال.
6. قيام اسرائيل باصدار أمر عسكري صباح الخميس 30/10/2014 باغلاق الحرم القدسي الشريف أمام المصلين المسلمين وجميع الزائرين وحتى اشعار آخر، مما ادى الى ارتفاع حدة التوتر في القدس.
سياسة الانتقام الاسرائيلية
رداً على الأحداث المذكورة سابقاً، ونظراً لتصاعد المقاومة في القدس، قامت اسرائيل عبر سلطاتها المحتلة باجراءات عقابية جماعية انتقامية بحق أبناء القدس تمثلت بالآتي:-
· قيام مفتشي البلدية بتحرير مخالفات للسيارات الجاثمة في شوارع القدس بحماية قوات من الشرطة.. وحتى في ايام السبت حيث الوقوف في الشوارع وحسب القانون هو مجاني.
· قيام طواقم الضريبة والتأمين بشن حملات مداهمات للمتاجر العربية في القدس وتحرير مخالفات واستدعاءات.
· قيام البلدية الاسرائيلية في القدس بهدم المنازل في مختلف ضواحي القدس بحجة عدم الترخيص.
· ادلاء كبار المسؤولين الاسرائيليين من أمنيين وسياسيين بضرورة تشديد العقاب الجماعي بحق أبناء القدس. وقد طالب قائد شرطة القدس السابق بمنع أبناء القدس من الحصول على رخصة لسياقة السيارات، واجبارهم على استخدام المواصلات العامة.
· قيام مستوطنين بالاعتداء على عرب مقدسيين في القدس الغربية، وكذلك ثقب سيارات مواطنين، وتهميش بعض السيارات من قبل جماعة "تدفيع الثمن" الاسرائيلية المتطرفة.
· قيام الشرطة الاسرائيلية بالسماح لليهود بزيارة الحرم، وفي الوقت نفسه اغلاق الحرم أمام المصلين المسلمين حتى الساعة الحادية عشرة من قبل الظهر وبصورة يومية.
· وضع حواجز ونقاط شرطية استفزازية في مختلف مفارق الطرق، وكذلك وضع بالون (منطاد) لمراقبة المناطق وتصويرها.
· شن حملات اعتقالات عشوائية شملت المئات من أبناء القدس، ومن بين المعتقلين قاصرون تقل أعمارهم عن 18 و16 عاماً.
· مضايقة المواطنين خلال ملاحقة معاملاتهم في المكاتب الحكومية الاسرائيلية (الداخلية والتأمين الوطني والبلدية والضريبة المضافة أو الدخل)، والطلب منهم باحضار وثائق بهدف ازعاجهم ومضايقتهم وخاصة في مكتب وزارة الداخلية!
من المسؤول عن التصعيد الحالي
الفلسطينيون أبناء القدس يتهمون اسرائيل بتحمل مسؤولية التصعيد لأنها هي التي تتخذ الاجراءات القمعية الاستفزازية ضدهم، وهي التي تسمح "لليهود المتطرفين" بزيارة الحرم، واقتحامه، والقيام بأداء صلوات وشعائر دينية مع أن الدين اليهودي يحرم ذلك.. وان الهدف من كل هذه الاجراءات استفزازهم، ومعاملتهم معاملة قاسية. وهناك قاعدة تقول أن المزيد من الضغط يولد الانفجار، وهذا ما حدث في القدس.
في المقابل تحاول اسرائيل القاء تهمة المسؤولية لما يحدث وهذا التصعيد على السلطة الوطنية الفلسطينية، وخاصة الرئيس محمود عباس لالقائه كلمات أكد من خلالها التمسك بالقدس وحق أبنائها في الصمود، والدفاع عن أنفسهم، واعتبار الحرم القدسي الشريف خطاً أحمر. وكذلك تتهم اسرائيل الفصائل الفلسطينية بالوقوف وراء هذا التصعيد بهدف اندلاع انتفاضة ثالثة، والاتهام موجه بالتحديد لحركتي حماس والجهاد الاسلامي.
ولكن المسؤول الأول والأخير عن كل ما يجري هو بقاء الاحتلال في القدس وارهاصاته المختلفة بحق المقدسيين. وهذا سبب كاف للتصعيد والمقاومة والنضال.. ولن تهدأ الامور والاوضاع الا اذا ظهر أفق سياسي للحل، أو تواجد "أمل" ما في الخلاص من الوضع غير المستقر الحالي.
دوافع وطنية ودينية
اذا أردنا ان نكون صادقين، فان المواجهات ضد الاحتلال تأتي بدافع شبابي ذاتي، في كل حارة، وفي كل أزقة القدس. وهذا الاندفاع هو بسبب شعورين مهمين: الأول هو الشعور الديني بأن الحرم القدسي الشريف في خطر، ولا بدّ من الوقوف الى جانبه والتصدي للمؤامرات التي تسعى للسيطرة عليه. والثاني الحس أو الشعور الوطني اذا أن هؤلاء الشبان يملكون حساً وطنياً، وهذا الحس يزداد قوة مع ما يواجهونه يومياً من سياسة قمع واذلال ومضايقة لهم.
هؤلاء الشبان يخططون بأنفسهم طريقة المواجهة اليومية، وهم في غالبيتهم مستقلون ولذلك فاننا نجد أن الفصائل والقوى الفلسطينية تجد نفسها في حالة احراج أمام هذا الزخم الشبابي، فتحرك عناصرها أيضاً.. ومن هنا تكون المواجهة أقوى وأكثر فاعلية.
تدخل عربي ودولي
هذه الاحداث، وخاصة تلك المتعلقة بالحرم القدسي الشريف، أدت الى تدخل عربي في هذا الامر..
فقد دعت السلطة الوطنية الى عقد جلسة لمجلس الأمن لبحث البناء الاستيطاني في القدس، وكذلك دعت الجامعة العربية ومنظمة التعاون الاسلامي الى التحرك للدفاع عن القدس والأماكن المقدسة.
أما الأردن، فقد أدلى العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بعدة تصريحات أدان فيها اجراءات اسرائيل القمعية في القدس بشكل عام، وفي الحرم القدسي الشريف بشكل خاص. وقد اضطر الاردن الى استدعاء سفيره في تل أبيب للتشاور، وكذلك للاحتجاج على هذه الاجراءات.
دول عربية هي على اتصال سري أو علني مع اسرائيل وجهت رسائل واضحة بضرورة وقف هذه الاجراءات، والا فان العلاقات مع اسرائيل ستصاب بنكسات، وهذه العلاقات مهمة لاسرائيل.
كذلك وزارات الخارجية للعديد من الدول – وخاصة الاوروبية – دعت اسرائيل الى تهدئة الامور وليس التصعيد.
مساء الخميس 6 تشرين الثاني 2014 اتصل رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو بالملك عبد الله الثاني أكد في هذا الاتصال التزامه بعدم تغيير الوضع القائم في الحرم، وانه سيتخذ الاجراءات لتطبيق تعهده هذا.
قدرة نتنياهو على التهدئة
أمام علامة استفهام كبيرة
لقد وعد نتنياهو بالتهدئة في القدس، ولكن، هل هو قادر على ذلك.. هناك شك كبير في ذلك لعدة أسباب وأهمها:-
1. لا تستطيع الشرطة منع أصحاب حصانة مثل وزراء وأعضاء كنيست من دخول الحرم القدسي الشريف، ولذلك فان الاقتحامات مستمرة. وخير اثبات على ذلك هو ان عضو الكنيست موشيه فيجلين عن حزب الليكود، الحزب الذي يتزعمه نتنياهو نفسه، قام باقتحام استفزازي للحرم القدسي الشريف. وأعلن المستوطنون نيتهم زيارة الحرم يوم الجمعة 7/11/2014 في تحد لمكالمة نتنياهو مع العاهل الاردني.
2. هناك أحزاب دينية متطرفة داخل الائتلاف الحكومي قد لا توافق على أي اجراء يتخذه نتنياهو وهو اصدار اوامر شفوية لجميع المتزمتين من السياسيين بعدم دخول ساحات الحرم القدسي الشريف.
3. يواجه نتنياهو مشاكل داخل حزبه الليكود، فهو غير قادر على السيطرة عليهم الا بعد عقد مؤتمر عام، وتعزيز موقعه القيادي.
قد يلجأ نتنياهو الى عقد صفقة مع اليمين الاسرائيلي، وبالتالي مع المستوطنين، يتم بموجبها تعزيز وتصعيد وتيرة البناء الاستيطاني في القدس والضفة مقابل التهدئة في القدس. ونتنياهو بحاجة الى التهدئة اكثر من أي انسان آخر لاسباب عديدة وكثيرة.
دوافع حاجة نتنياهو للتهدئة في القدس
ومن أهم هذه الدوافع أو العوامل أو الأسباب التي تجبر نتنياهو على تحقيق التهدئة في القدس:-
· تخوفه من تحول الصراع السياسي الى صراع ديني، وهذا يشكل خطراً على اسرائيل، وكذلك على يهود العالم اذ ان المسلمين في العالم لن يسكتوا ولن يتفرجوا على الوضع، لذلك فان كل يهودي في العالم سيكون في خطر.. ونتنياهو حريص على علاقات مع دول اسلامية، وهذا الصراع سيؤدي الى فقدانه لهذه العلاقة.
· الصراع الديني قد يوحد المسلمين سنة وشيعة، وبالتالي فان محاولة تشكيل محور سني لضرب أو مواجهة ايران قد يفشل، ومساعي اسرائيل للحصول على دعم دول اسلامية لمواجهة برنامج ايران النووي قد تنتهي من دون نتائج.
· تخوّف نتنياهو من انتشار المواجهات الى مناطق الضفة الغربية، وخاصة مناطق جـ (C) التي هي تحت السيادة الامنية الاسرائيلية، وبالتالي اندلاع انتفاضة ثالثة قد لا تكون لصالح اسرائيل.
· هناك تخوّف نتنياهو من انتقال الاحداث الى الوسط العربي داخل اسرائيل، فأحداث كفر كنا وام الفحم والطيبة اشعلت الاضواء الحمراء امام حكومة اسرائيل، حتى ان نتنياهو فقد اعصابه بادلاء تصريح ضد العرب في اسرائيل بتأييد سياسة الترحيل عند القول أنه يؤيد نقل العرب في اسرائيل الى مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية!
· هناك خشية من ان الانتفاضة في الضفة ستكون دامية، وخاصة اذا استهدفت المستوطنين الذين يحملون السلاح، وبالتالي قد تقع حرب داخلية مدمرة لاسرائيل لانها لا تستطيع السيطرة على الوضع اذ ان هناك حوالي نصف مليون مستوطن في مناطق الضفة، وهم من غلاة المتطرفين، وهم مدججون بالسلاح.. ولا يريد نتنياهو ان يصطدم الجيش الاسرائيلي مع المستوطنين في اطار قمعه لكل المواجهات المتوقعة في الضفة الغربية.
توقعات للمستقبل
اذ توقفت اسرائيل عن الاستفزاز في القدس، فهذا يساهم في تحقيق التهدئة، واذا كانت هناك معطيات سياسية جيدة لصالح القضية، فهذا عامل من عوامل التهدئة، فالمواطن المقدسي وكذلك أي مواطن فلسطيني في الوطن المحتل لن يوقف نضاله الا اذا وجد أن هناك آفاقاً لحل سلمي، وان اسرائيل تلين من مواقفها.. وحرف الشرط "اذا" هو كبير، ومن المستحيل اسرائيل أن تتوقف عن الاستفزاز والاستيطان، وهي ليست معنية باقامة دولة فلسطينية مستقلة، بل تريد كياناً فلسطينياً ممسوخاً محدود السيادة والحرية، أي كياناً مشوهاً.. وهذا يرفضه الفلسطينيون.
ومن ناحية أخرى، فان الفلسطيني لن يتوقف عن النضال ما دام هناك احتلال بغيض.. لذلك المواجهات قد تستمر، ولكن بوتائر مختلفة، في أحيان هي عالية، وفي أحيان أخرى منخفضة. واسرائيل مسؤولة عن كل التوتر عبر اجراءاتها واستفزازها وقمعها المتواصل، والتي تساهم هذه الاجراءات في ارتفاع وتيرة المواجهة.
هناك عامل واحد قد يلعب دورا في منع الانتفاضة أو تخفيض وطأة التوتر، الا وهو التنسيق الأمني الفلسطيني الاسرائيلي برعاية اميركية، اذ أن هذا التنسيق قد يمنع اندلاع احداث داخل المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، أما مناطق "ج" فهي من مسؤولية أمنية اسرائيلية.
هل تندلع انتفاضة ثالثة
عالجنا في السابق، وفي اعداد ماضية هذا السؤال، ولكنه يعود الى السطح لتداوله ونقاشه.. والاجابة عليه صعبة.. فالارضية خصبة لاندلاع انتفاضة، ولكن الظروف لن تسمح بذلك...والتساؤل الاهم هو: اذا اندلعت انتفاضة فالى أين ذاهبون،هل الى مزيد من التنازلات أو تحقيق انجازات. أطراف عديدة تريد اندلاع الانتفاضة من اجل التدخل في الضفة، وبالتالي الحصول على نفوذ فيها، وهناك من يعارض أي انتفاضة جديدة لانها مكلفة، وقد تستغلها اسرائيل للتهرب من استحقاقات السلام، وتحميل مسؤولية التوتر للسلطة الوطنية.
الاجواء حاليا هي أجواء انتفاضة، ولكن هل تندلع بصورة سريعة، أم ما زالت الظروف غير مهيأة لذلك.
لا بدّ من الانتظار لمعرفة ذلك على ارض الواقع، ولا بدّ من دراسة الوضع وتقييمه قبل دخول نفق صعب قد ندفع ثمناً باهظاً له.