أسباب اتهام اميركا بالضلوع بالانقلاب
مع أنها ساهمت في افشاله
في الساعة الحادية عشرة من مساء يوم الجمعة الموافق 15 تموز/ يوليو 2016، نقلت وسائل الاعلام التركية والعربية والعالمية أنباء عن وجود تحرك عسكري غامض في تركيا، وعن اغلاق الجسور التي تربط شطري تركيا الاسيوي والاوروبي، وعدة أماكن، وتحليق طائرات عمودية ومقاتلة في اجواء العاصمة انقرة. وسرعان ما صدر بيان عسكري يقول ان الجيش التركي سيطر على زمام الامور في تركيا حفاظاً على النظام والحرية والديمقراطية. وصرح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم ان الانقلابيين سيدفعون الثمن، وبعد فترة ناشد الرئيس التركي رجب اردوغان مناصري حزب العدالة بالحراك الشعبي في الشارع ضد الانقلاب دعما للشرعية والديمقراطية. وما هي الا ساعات معدودة حتى اعلن ان الانقلاب فشل، وان الحكومة تسيطر على الوضع كاملا.. وفي ساعات معدودة اعلن عن اعتقال المئات من الضباط، ومقتل واصابة المئات من الذين شاركوا في الانقلاب. وكذلك تم فصل اكثر من 2700 قاض تركي عن مناصبهم. وبعد مرور 24 ساعة اعلن وزير العدل التركي عن اعتقال اكثر من ستة الاف شخص متورطين في عملية الانقلاب. (وبعد مرور عدة أيام وصل عدد المعتقلين والمقالين الى اكثر من عشرين الف شخص)! وقيل ان قادة سابقين وحاليين شاركوا في التمرد. وفي كلمة له أمام مناصريه اتهم الرئيس التركي اردوغان صديقه السابق وعدوه اللدود الحالي فتح الله غولن بالوقوف وراء الانقلاب، وطالب الولايات المتحدة بتسليمه للسلطات التركية لمحاكمته ومعاقبته، لكن غولن نفى ان يكون له أي ضلع في هذا الانقلاب، مؤكدا في الوقت نفسه رفضه لاي انقلاب عسكري في تركيا، كما ان وزير الخارجية الاميركي جون كيري، قال وبكل وضوح ان السلطات التركية لم تقدم معلومات او اثباتات عن تورط غولن بالانقلاب، ونفى ان تكون اميركا على علم مسبق لا بالانقلاب، ولا بالهجوم الارهابي على مطار اتاتورك الدولي في اسطانبول الذي وقع قبل فترة قصيرة!
غموض وتكهنات
ما جرى في تركيا كان غامضا الى حد كبير، وهناك تساؤل هل كان تمردا من قبل مجموعة من الجيش؟ هل كان انقلابا، وهل تورط فيه هذا العدد الكبير من الضباط، وكانوا على علم بوقوعه. ولم تعرف الاستخبارات العسكرية بذلك؟ هل من الممكن اصدار الآلاف من اوامر الاعتقالات والعزل لضباط وقضاة وخلال سويعات معدودة؟ وهل كانت اميركا تتوقع وقوع هذا التوتر في تركيا عندما حذرت رعاياها بعدم التوجه الى تركيا في الفترة الحالية!
هناك غموض حول من أعد ورتب وخطط لهذا الانقلاب الفاشل الذي لم يشارك فيه كبار الضباط، ولم تشارك فيه القيادة العسكرية نفسها؟ هل كان اردوغان على علم بوقوع الانقلاب ولذلك استعد له كي يستثمره في ممارسة سياسة القمع والبطش والاعتقال لمناوئيه تحت شعار حماية الشرعية والديمقراطية في تركيا؟ والتساؤل الاهم هو من رتب هذا الحدث ولمصلحة من؟ وماذا بعد وقوعه وفشله؟
توقيت الانقلاب الفاشل
عندما يقع أي حدث لا بدّ أن يطرح سؤال حول توقيت تنفيذه؟
هل كان صدفة، أم له اهداف معينة؟ وكذلك فان اسئلة عدة طرحت حول توقيت هذا "الانقلاب" الفاشل، لماذا يوم 15 تموز 2016، أي بعد عدة أحداث ووقائع جرت ومنها:-
· الهجوم الارهابي على مطار اتاتورك الدولي.
· تصاعد العمليات العسكرية التركية ضد حزب العمال الكردستاني.
· توجيه رسالة اعتذار من الرئيس اردوغان الى الرئيس الروسي حول اسقاط الطائرات التركية لطائرات سوخوي 24 الروسية في الاجواء السورية.
· استقالة احمد داود اوغلو من منصبه كرئيس وزراء، وحل مكانه بن علي يلدريم.
· اعلان يلدريم نية تركيا تحسين العلاقات التركية مع دول الجوار، أي اتباع مسار سياسي جديد في العلاقات مع الدول الاقليمية الجارة.
· توقيع اتفاق تركي اسرائيلي لعودة العلاقات الدبلوماسية الثنائية الى ما كانت عليه قبل ايار 2010.
· سحب الحصانة البرلمانية عن العشرات من اعضاء البرلمان التركي.
· تنفيذ سياسة قمع وكم افواه صحفيين مناوئين لسياسة اردوغان الداخلية، وشن وسائل اعلام دولية حملة تحريض ضد اردوغان لاتباعه هذه السياسة المخالفة لحقوق الانسان والديمقراطية!
· تعاظم شعور معاد لاردوغان في الشارع التركي لهذه "الاجراءات التي تهيء لتعزيز سلطاته وديكتاتوريته"!
سوء التخطيط للانقلابيين
لقد أبدى "الانقلابيون" سوء تخطيط لهذا الانقلاب من خلال ارتكاب عدة اخطاء قاتلة ادت الى فشلهم في الاطاحة بالنظام الحالي.. ومن هذه الاخطاء:-
· عدم مشاركة هيئة الاركان في هذا الانقلاب.
· عدم اعتقال اردوغان ورئيس الوزراء واركان الحكومة، وتم الاكتفاء باعتقال قائد الجيش ووضعه في مكان "آمن"، لعل وعسى يدعم الانقلاب، ولكنه رفض ذلك.
· تحرك الانقلابيين لم يكن سريعا مما منح الفرصة للشعب لكي يتحرك ضدهم.
· لم تتم السيطرة على وسائل الاعلام، بل استغل اردوغان الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ليحض مناصريه على النزول الى الشوارع تأييدا للحكومة.
· هناك رفض عارم من الشعب التركي ضد أي انقلاب عسكري، وهناك تمسك بالنظام الديمقراطي من أجل منع العودة الى النظام الاستبدادي.
· بيانات "الجيش" أو الانقلابيين لم تكن مقنعة للشارع التركي، ولم توضح اسباب التمرد أو الانقلاب.
· لم يحظ الانقلابيون بأي دعم من أي من الاحزاب المناهضة للحكومة.
· كانت هناك بلبلة وفوضى في التنفيذ؟! وكان الانقلاب مكشوفا قبل وقوعه، وذلك لتورط عدد كبير من الضباط فيه. وصل الى الآلاف؟ وهذا يعني ان الحكومة كانت على استعداد لمواجهته!
لماذا اتهام اميركا
اتهم اردوغان بصورة غير مباشرة الادارة الاميركية بالوقوف وراء الانقلاب من خلال احتضان الخصم السياسي اللدود له فتح الله غولن، وطالب بتسليمه فورا للسلطات التركية.
والتساؤل لماذا هذا الاتهام لاميركا؟ والاجابة يمكن حصرها بعدة امور ساهمت في فتور العلاقات بين اردوغان والادارة الاميركية برئاسة باراك اوباما، ومن أهمها:-
· رفض اميركا للمطلب التركي باقامة منطقة عازلة على الحدود التركية السورية، وعدم السماح لتركيا باقامة هذا "الحزام" الامني تحت شعار منطقة آمنة للمدنيين.
· رفضت اميركا طلب حكومة اردوغان بشن غارات على سورية دعما للمعارضة؟ وخاصة في شهر آب عام 2013.
· توفير دعم قوي، عسكري ومالي لوجستي لقوات سورية الديمقراطية الكردية، وتوفر نية اميركية في دعم مطلب الاكراد باقامة كيان ذاتي في شمال سورية، وهذا الامر ترفضه تركيا، وهي ضد اقامة أي كيان مستقل على حدودها الجنوبية.
· التقاعس الاميركي في دعم "المعارضة" السورية وخاصة "جبهة النصرة" التي اعتبرت تنظيما ارهابيا، وتقوم روسيا بالتعاون مع القوات السورية في دك معاقل هذا التنظيم الارهابي، الى جانب ضرب تنظيم "داعش" الارهابي.
· لم تساعد الادارة الاميركية تركيا في نواح سياسية بمقدورها ان تلعب دورا فعالا فيها ومنها تحقيق اتفاق تركي اسرائيلي، والمساعدة في انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي. وقامت تركيا ذاتها باجراء الاتصالات المباشرة مع اسرائيل، وازالة العثرات أمام عودة العلاقات الثنائية الى طبيعتها!
· لم تفعل الادارة الاميركية أي شيء ضد نظام الحكم في مصر الذي تعتبره انقرة انقلابا على الشرعية، وان الادارة الاميركية تدعم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مواجهة حركة الاخوان المسلمين بشتى فروعها واذرعها!
· قيام وزارة الخارجية الاميركية بتوجيه انتقادات لاذعة لاجراءات اردوغان القمعية بحق الصحفيين، وكذلك في زج المعارضين في السجون، واعتبار ذلك مخالفا لحقوق الانسان، وحرية التعبير.
·
الجنوح "قليلا" نحو الشرق
أمام الفتور في العلاقات التركية الاميركية، وكذلك تدهور العلاقات التركية مع دول الجوار وخاصة روسيا التي تمثل الشرق، فقد وجد نظام اردوغان ضرورة تحسين العلاقات مع الدول أو الجهات التي "تنافس" أو "تعاكس" سياسة الرئيس باراك اوباما، ومن اهمها العلاقات مع كل من روسيا واسرائيل.
فمع اسرائيل تم التوصل الى اتفاق، حقق اردوغان ما يريد منه، وأهم بنوده دعم قطاع غزة وابنائه، وتعزيز سلطة حماس هناك بتوفير الكهرباء والماء، وتقديم مساعدات كبيرة لهم. أما فيما يتعلق بالعلاقة مع روسيا فهي في تطور ايجابي كبير اذ ان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف كان اول من دان الانقلاب ضد الشرعية في تركيا بعد اقل من ساعتين على بدء "الانقلاب" في تركيا، كما ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هاتف الرئيس التركي اردوغان صباح السبت 16/7/2016 مؤكدا دعمه له. كما ان الكرملين اعلن عن عقد قمة تركية روسية في مطلع شهر آب 2016. أي ان تركيا بدأت بالجنوح نحو روسيا لحل أي اشكالات معها، وخاصة تنفيذ المطلب الروسي باغلاق الحدود التركية السورية امام الارهابيين، وبالتالي وقف تقديم يد المساعدة لهم، ولما يسمى بالمعارضة. وكذلك ستتفرج تركيا على تحرير حلب، واعادتها الى حضن الدولة السورية، مقابل رفض موسكو اقامة أي كيان كردي مستقل على الحدود التركية الجنوبية، أي ان اردوغان يسعى الى تغيير سياسته نحو سورية مقابل منع اقامة أي كيان او دويلة كردية متاخمة لحدود تركيا. وهذا المطلب التركي تقبل به روسيا لانها ضد تقسيم سورية، ولانها تريد ضرب الارهاب والقضاء على عناصره كاملا، وعدم السماح لهم بالعودة الى البلاد التي اتوا منها.
وجنوح اردوغان نحو الشرق هو رد على السياسة الاميركية. وقد يكون ورقة ضغط على الادارة الاميركية الحالية التي هي في اشهرها الاخيرة من الحكم!
توقعات وتحذيرات
هناك عدة توقعات بعد حدوث هذا الفيلم الانقلابي الفاشل ومن أهمها:-
1. ان يواصل اردوغان في عملية تطهير السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية، وكذلك المؤسسات الامنية من العناصر الموالية أو المتعاطفة مع غريمه وخصمه السياسي "فتح الله غولن"! وبالتالي زج الالاف في السجون.
2. تعاظم الانقسام الداخلي بين مؤيد للعلمانية، ومناهض للخطوات الاردوغانية في اسلمة النظام في تركيا.
3. تغيير في سياسة اردوغان تجاه "سورية" اذ انه قد يغلق الحدود امام الارهاب مقابل عدم اقامة دولة أو دويلة كردية على حدوده، والا يتدخل في شأن سورية الداخلي.
4. تحسين العلاقات مع كل من روسيا واسرائيل وايران، والعمل على "وأد" الفتنة الدينية المذهبية بين سني وشيعي.. أي ان يعمل لشطب "ايران" من قائمة اعداء الامة الاسلامية او الامة العربية.
5. عدم القبول بأي طلب يقدم له من اميركا او الناتو فيما يتعلق باستخدام الاراضي التركية لاي نشاط حالي او مستقبلي.
6. وقوع مظاهرات وتظاهرات ضد اردوغان على خلفية اصدار احكام اعدام متوقعة؟ وتذمر بين ابناء الشعب على اجراءات التصفية بحق منافسيه ومناوئيه السياسيين.
7. قد يلجأ الى اجراء انتخابات مبكرة في حال عدم حصوله على ما يريد من البرلمان التركي، او اذا حصل خلاف كبير مع المعارضة حول تمرير قانون "الاعدام"!
8. وقوع المزيد من الاعمال الارهابية في تركيا قد يتهم بمسؤولية تنظيم "داعش" الارهابي او حزب العمال الكردستاني.
أما التحذيرات المطلوبة والمفروضة حول الوضع في تركيا فيمكن تلخيصها بالآتي:
· قد تؤدي اجراءات اردوغان التعسفية الى صراع داخلي.. وهذا الانقلاب قد ادى الى انقسام في الموقف حول علمانية او عدم علمانية الدولة التركية، وان "يلدغ" جيرانه مرة اخرى اذ ان الاعتماد على اردوغان هو خطأ كبير لانه اذا قدمت له الولايات المتحدة كل ما يريد، فانه قد يتراجع عن مواقفه المتوقعة لان همه الاول هو تعزيز سلطة الاخوان المسلمين في تركيا، وفي مناطق عدة من العالم العربي.
· احلامه في اقامة امبراطورية عثمانية لم تزل ولم ترحل، ولذلك فهو قد يقتنص اية فرصة، ولو على حساب الدول الجارة مثل سورية، لتحقيق ذلك. وهذا ما اثبتته سياسته خلال السنوات الماضية.
تداعيات "الانقلاب" لم تنته
قد يقول بعض المراقبين ان هذا الانقلاب كان "هدية من الله" لاردوغان حتى تتوفر الفرصة الذهبية له للاطاحة بكل من هو ضده، أو ضد أسلمة الدولة، وبكل موال أو متعاطف مع خط "اتاتورك" أو خط "فتح الله غولن". وهذه المهمة ليست ببسيطة، فقد تكون لها تداعيات وردود فعل، إذ أن اردوغان بحاجة للجيش، وكذلك بحاجة الى دعم شعبي له، فاجراءاته "القمعية" قد تقبل في بداية الامر، ولكن ان استمرت وطالت عشرات الآلاف، فان ردود الفعل عليها لن تكون بسيطة وسهلة.
مراقبون آخرون يقولون ان متاعب اردوغان بدأت الآن بعد وقوع هذا الانقلاب أو التمرد الفاشل. لان هذا الحدث اثار فتنة بين مؤيد للعلمانية ومعارض لها، وهذا الانقلاب من الصعب التخلص منه بسهولة.
والتساؤل الاخير الذي يمكن طرحه: "هل هذا الانقلاب كان هدية بالفعل لاردوغان، أم انه بداية حياة صعبة، بداية نقمة قد تتسع دائرتها ضده في المستقبل؟"
كل الامل في ان تبقى تركيا مستقرة، وان تجتاز هذه المرحلة، وان يكون دورها بناء ليس هداما.. والمهم أن تتواصل الديمقراطية، وان يبعد شر الديكتاتورية عنها.
من هو عدو اردوغان
الداعية الاسلامي فتح الله غولن
· يبلغ الداعية الاسلامي فتح الله غولن الـ 75 عاما من العمر.
· يقيم في ولاية بنسلفانيا الاميركية منذ عام 1999.
· يرأس جمعية "خدمة" القوية التي تدير شبكة مدارس دينية واسعة في تركيا، وحول العالم، ومنظمات وشركات.
· كان واردوغان من اقوى الحلفاء، واستفاد اردوغان من شبكة علاقات غولن لترسيخ سلطته. واصبح فيما بعد العدو الاول لاردوغان بعد فضيحة فساد في اواخر عام 2013 طالت المقربين من الرئيس اردوغان.