*الاحتلال والتحرر وإنهاء الانقسام أكثر القضايا التي تؤرق المثقف الفلسطيني
* مؤسسات "أل. إن. جي. أوز" تحاول صرف نظر المثقف الفلسطيني عن البوصلة الوطنية
* غزة محاصرة ومنعزلة والموضوع الفلسطيني برمته يمر بمنعطف حاد
* لابد أن يظهر المثقف الذي يبشر بالمستقبل ويحدد ملامحه
غزة- خاص بـ"البيادر السياسي":ـ حاوره/ محمد المدهون
يلعب المثقف دوراً مهماً في كل مجتمع من خلال ما يقوم به من تنوير وتثقيف لأبناء المجتمع، فهو مرآة المجتمع التي تعكس همومه ومشاكله وتتبنى قضاياه. وهذا ما قام به المثقفون الفلسطينيون على مدار عقود طويلة من النضال الوطني الفلسطيني في شتى الميادين والساحات النضالية، لكن هذا المثقف لم يجد من يتبناه، ويأخذ بيده ليؤدي دوره على الوجه الأكمل، فلا مطابع ولا دور نشر ولا سينما ولا مسارح حقيقية تأخذ على عاتقها تبني الأعمال الأدبية التي كثير منها لا يخرج من أدراج المثقفين.. "البيادر السياسي" استضافت الأديب والكاتب رجب أبو سرية، وأجرت معه الحوار التالي حول دور المثقف الفلسطيني وهمومه وقضاياه، وآخر مستجدات المشهد الثقافي الفلسطيني في قطاع غزة.
وفيما يلي نص الحوار.
الثقافي والسياسي
*ظلت العلاقة بين المثقف والسياسي على مدار سنوات طويلة يشوبها الحذر والتوتر أحياناً.. فالسياسي لا يروق له كثيراً وجود الثقافي.. ما هو الدور الذي يلعبه المثقف في المجتمع ؟ وهل يمارس المثقف الفلسطيني دوره المناط به؟
- لا لم تكن هكذا العلاقة بين المثقف والسياسي، دائماً، فقبل عقود من الزمن، أي لحظة انطلاق حركة التحرر الفلسطينية، في منتصف ستينيات القرن الماضي, كان هناك تطابق إلى حد بعيد بين الثقافي والسياسي الفلسطيني، ذلك أن السياسي لم يكن محترفاً، ولا الثقافي كان كذلك, كلاهما كان مناضلاً وطنياً، وكانا صاحبي مشروع وطني تحرري، يتسابقان من خلاله على التضحية بالذات والخاص وتقديم أفضل ما يمكنهما من أجل فلسطين. لكن ما تشير إليه حدث لاحقاً، وبالتدريج، أي منذ أن بدأ تحول المناضل الوطني لمحترف سياسي يمارس " التكتيك " وبعد أن دخل مربع اللعبة السياسية بأبعادها الإقليمية والدولية، بدأ الافتراق ليس بين المثقف والسياسي وحسب, بل بين سياسي وسياسي, وحتى بين ثقافي وثقافي, وزادت الشقة تبايناً، مع تحول السياسي/ الوطني إلى سلطوي بعد أوسلو، حيث أن السياسي الفلسطيني بذلك صار مثله مثل السياسيين الآخرين، فيما ظل الثقافي يغلب عليه طابع الحالم بالتحرر والحرية.
المثقف عادة يلعب دوراً تنويرياً/ تحريضياً، يقرأ ما هو أبعد مما تراه العين المجردة، ويأخذ الناس إلى ما هو أعمق من التفاصيل اليومية، يبث الأمل بين الناس حين يشاع اليأس، ويحرض على الثورة حين يستسلم الآخرون. المثقف عادة يقدم نموذجاً أيضاً في التمسك بالقيم العامة والمشاعر الجماعية، ويؤسس بوعيه وفكره لعالم الغد، يقارع الظلم، ويحض على المحبة والعدالة.. الآن لا يمكنني أن أقول بأن المثقف الفلسطيني يقوم بدوره كما يجب, ولذلك أسباب عديدة: منها أن الموضوع الفلسطيني برمته يمر بمنعطف حاد، أو بمرحلة انتقالية – إن صح التعبير- لابد أن يظهر المثقف الذي يبشر بالمستقبل ويحدد ملامحه، ومن تلك الظروف أن أدوات التأثير على الناس اختلفت، فنحن نعيش الآن عصر ثورة الاتصالات، وباتت حتى الثقافة تتشكل وفق منطق " البزنس " فالمال الآن يصنع ثقافة، وباتت الناس عبر " السوشيال ميديا " تنتج ثقافة عامة/ شعبية، بنفسها، فلم يعد ترويج النص الأدبي أو الفني يحتاج دار نشر أو إذاعة أو أستوديو، أي لم نعد إزاء ثقافة نخبة، بل انتشرت الثقافة الشعبية/ التفاعلية على نطاق واسع، ثم إن المثقف الفلسطيني كان تفوق في النص الشعري قبل نحو نصف قرن. الآن نحن نعيش ثقافة الصورة، ومع ذلك فإن المثقف الفلسطيني يشكل حضوراً إقليمياً في السينما والغناء، لكن مع هيمنة القيم الغربية/ الأمريكية لم يعد المثقف الفلسطيني حامل راية التحرر الوطني مقبولاً بغنائه وشعره الوطني، مع انتشار الذائقة السطحية المتجاوبة مع المتطلب الغريزي .
تراجع مكانة الثقافي
* كيف ينظر المثقف لمجريات الأمور من حوله؟ وهل يضطر لأن ينحني أو يقف جانباً أحياناً؟
- المثقف بتقديري _ الآن _ في حالة من الحيرة، وأعني بذلك الشاعر، الروائي، القاص، التشكيلي، الموسيقي، المسرحي، فالحياة تتطور من حوله بسرعة الضوء، وهو يحتاج إلى الوقت ليصقل موهبته، ويحتاج للوقت لينتج قصيدة جيدة، أو رواية ممتازة، أو لوحة مبهرة. لكن لا أحد ينتظر، أو يتوقف ليتأمل، أو يقضي الوقت ليقرأ، الحياة باتت مثل الطاحونة، لا تنتظر أحداً حتى ليفكر بما يحدث من حوله، كل شيء صار له ثمن نقدي، حتى مشاهدات اليوتيوب، أو "لايكات" الفيسبوك، حتى نجوم الغناء تجد أخبارهم الخاصة والشخصية تملأ المواقع والمحطات الفضائية، ولا أحد يهتم بما قاموا بإنتاجه من فن، أسماء وأخبار وفقط. المثقف الفردي الآن لا يجد له مكاناً في هذا الصخب, هناك المؤسسات والأفراد الذين يملكون المال، ويقومون باستثماره في أي مجال يخطر ببالهم, وليس من الضروري أن يكون لهم فيه اختصاص. أعتقد أن مكانة الثقافة قد تراجعت في كل الدنيا, حيث أن الاهتمام كله منصب على الاقتصاد والسياسة والأعلام .
عزل وحصار
* كيف هي الحركة الأدبية والمشهد الثقافي الآن في قطاع غزة بعد تسع سنوات على الانقسام؟
- لا تسر صديقاً ولا تغيظ عدواً، هي محاصرة ومنعزلة بكل معنى الكلمة.. المثقف في غزة مثله مثل المواطن مطحون بالتفاصيل اليومية، وليس هناك متسع في غزة لأساسيات الحياة التي باتت تعد ضمن خانة الرفاهية، ومنها الثقافة. هل يمكن لمواطن لا يجد قوت يومه أن يذهب لمشاهدة مسرحية ويدفع قيمة التذكرة ( 5 شيكل مثلاً)، هل يمكنه أن يفكر في شراء كتاب, أو لوحة؟ وهل يشجع ابنه على تعلم الموسيقى؟ وأن يشتري له آله بمبلغ قد يصل لمرتبه الشهري؟ هذا إذا كان له مرتب. لا شيء يشجع على الثقافة في غزة إلا عناد المثقف وباعثه للخروج من النفق، لكن لا بد من القول بأن المشهد الثقافي في غزة الآن، وبسبب الحصار والانقسام معزول، فالمثقف بغزة لا يمكنه أن يشارك في مهرجانات ومؤتمرات الخارج, ولا حتى في رام الله، ولا يتمكن الأديب من إيصال كتابه للقراء في الضفة أو الخارج, هذا لو أنه نجح أصلاً في تجاوز شبه المستحيل وطبع الكتاب.. اختفت الفعاليات الثقافية العامة، معارض الكتب، المهرجانات، المشاركات، وحتى إنتاج المسرحيات والأفلام وطباعة الكتب، فضلاً عن الأمسيات الدورية. المشهد الثقافي في غزة _ الآن _ لا يكاد يظهر للعيان، للأسف.
مثقف وطني
* ما هي أكثر القضايا التي تؤرق المثقف الفلسطيني؟
- قضية الاحتلال والتحرر وإنهاء الانقسام، وإلا كنا نتحدث عن مثقف فضائي، لا يمكن لمثقف محترم أن يخرج من جلده، وأن يغادر هموم أهله وشعبه، وإلا يتحدث بلغة لا يعرفونها. ما زال المثقف الفلسطيني مثقفاً وطنياً، أهم ما يؤرقه هو كيف يشارك شعبه في إنهاء الاحتلال، وكيف يقوم بدوره على هذا الصعيد، كيف يدحض رواية الاحتلال، ويطلق الصورة المشرقة لشعب مكافح .
* إلى أي مدى ينحاز المثقف الفلسطيني إلى قضايا شعبه ؟ وهل يكتب ما يمليه عليه ضميره؟
- إلى أبعد مدى، فليس هناك من يهتم "بشراء" المثقف الفلسطيني إلا بعض مؤسسات "أل إن جي أوز" التي كانت وما زالت تحاول أن تصرف نظر المثقف الفلسطيني عن البوصلة الوطنية، وتدعوه للاهتمام بقضايا اجتماعية مهمة، مثل قضية المرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة. لكن لا يمكن التعامل معها بمعزل عما هو خاص بالشأن الفلسطيني، والذي يجعل من مشاكلنا مركبة بسبب الاحتلال الإسرائيلي.. أظن أن المثقف المتحقق/ الفرد يكتب ويرسم ويصور ويغني بما يمليه عليه ضميره، خاصة حين يخاطب شعبه، وشعبنا لم يحب مثقفاً ولم يقرأ لمثقف، لم يشاهد ولم يستمع لمبدع، اهتم بقضايا غير وطنية. فلسطين بقضاياها التي لها علاقة بالاحتلال ما زالت تملأ الأفلام والقصائد والروايات وحتى الأغاني، وما زال المثقف الفلسطيني يعرّف داخل الوطن وخارجه على انه مبدع وطني .
مواجهة الأكاذيب
* الثقافي الإسرائيلي حاول مراراً ولا يزال أن يشوه التاريخ والحقيقة من خلال ما يروجه من أكاذيب.. هل استطاع المثقف الفلسطيني أن يواجه المثقف الإسرائيلي؟
- نعم، خاصة المؤسسات الإسرائيلية التي تنتج الثقافة.. المثقف الفلسطيني منذ ظهر مطلع ستينيات القرن الماضي بدأ بإنتاج شعر المقاومة، أربك حسابات مؤسسات القرار الإسرائيلية لدرجة أن حاربت الحكومة الإسرائيلية أشعار سميح القاسم واعتبرت محمود درويش محرضا ً وألغت قصيدته "عابرون في كلام عابر" من المناهج، كذلك فإن المثقف الفلسطيني بالفيلم والقصيدة والرواية يقوم حين تتوفر له الفرصة بالمشاركة في اللقاءات الدولية بدحض ومواجهة نظيره المثقف الإسرائيلي، لو حتى بحضوره الذي يؤكد وجود الشعب الفلسطيني على الأرض كشعب حضاري ومثقف ومبدع، وليس غريباً أن نتفوق في حقل الثقافة على الإسرائيليين, نظراً إلى أن الثقافة حقل الفكر والأخلاق، وليست حقل المصالح كما هو الحال في السياسة، لذا فإن أصدقاء إسرائيل في الثقافة أقل، لكن المشكلة عندنا تتمثل في عدم مواجهة المؤسسة الثقافية _ خاصة الرسمية _ للمؤسسات الثقافية الإسرائيلية وفق برنامج مواجهة/ كفاحي محدد، يتابع كل من تنتجه إسرائيل ومثقفوها وتقوم بدحضه، لأنه يخاطب العالم, الذي لا نخاطبه نحن. نحن نوجه خطابنا لأنفسنا، لشعبنا وفقط.
جبهة ثقافة
* كيف يمكن لنا أن نواجه الدعاية الإسرائيلية والحرب الإعلامية الشعواء التي تشن على شعبنا؟
- بكل الوسائل الممكنة، وعلينا أن نبتدع وسائل وأشكالا جديدة. المهم هو أن نفتح جبهة الثقافة، ولا نخضع حتى لكوابح المؤسسة الرسمية التي ترى أنها جزء من أوسلو ومن الاتفاقيات مع إسرائيل، وأنها تلتزم بها. المهم أنه علينا أن نميز بين خطاب تحريضي/ عاطفي موجه لشعبنا، وآخر عقلاني/ معلل بالأدلة التي تخاطب العقل، وموجه للعالم الخارجي. كذلك لابد من أن يمنح المثقف كل الصلاحيات الشعبية والرسمية الممكنة للقيام بهذا الدور, ولابد أن نبدأ " بتوحيد أشتات الثقافة الفلسطينية"، فلا نقبل بواقع الانقسام الثقافي المترافق مع الانقسام السياسي، ولا نقبل بتقسيم الثقافة الفلسطينية بين داخل وشتات ومنفى. لابد أن نبدأ على الفور برفع شعار وحدة الثقافة الفلسطينية المنتجة من قبل الأفراد والمؤسسات والجماعات، بغض النظر عن مكان الإقامة، في غزة، الضفة، الـ 48، الأردن، المنفى، والشتات. ولابد أن نطلق كل وسائل الاتصال والتواصل بين المثقفين والمبدعين الفلسطينيين , وأن نقيم المهرجانات والمؤتمرات والمعارض على أساس وطني وبهدف جمع المثقفين الفلسطينيين وتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية الفاصلة فيما بينهم.
بثقافة فلسطينية موحدة وفاعلة ونشطة، ومع فتح جبهة الثقافة على مصراعيها في وجه إسرائيل التي تفضل جبهة الحرب والقتال العسكري وجبهة السياسة عموماً التي تتفوق فيها على جبهة الثقافة التي تخسر بها وجبهة القضاء والقانون وما إلى ذلك.