* فارس طفل يتيم متشرد.. فمن يمسح على شعره ويكون له في كل شعرة أصابت يده حسنة ؟
* صلاح يهرب من عذاب والده ويتنقل من بيت إلى بيت بحثاً عن الحنان المفقود..!.
* عبد الرحمن:- بحثت عن مأوى فلم أجد سوى هياكل السيارات "الخردة" للنوم بداخلها
*أبو عاصي:ـ وجود الظاهرة أمر غريب وعجيب لأن مجتمع غزة يرفض أن يكون فيه طفل أو شاب مشرد
غزة- خاص بـ"البيادر السياسي":ـ تقرير/ محمد المدهون
وكأنه شيء من الخيال.. عندما تجد نفسك أما قصة من هذا النوع في مجتمع محافظ كالمجتمع الغزي لا يكاد يصدقها العقل، فكيف لطفل يعيش تسع سنوات في مسجد بعد أن تخلت عنه أمه ؟! يفترش الأرض ويلتحف السماء، لا بيت يأويه ولا حضن أسري يدفيه، ولا قلب يرق عليه، إلا بعض أهل الخير الذين كانوا يبعثون له بالقليل من الطعام.. ولم تختلف قصة هذا الطفل عن غيره من الشباب الذين لا يجدون مأوى بعد أن شردتهم ظروف الحياة القاسية.. "البيادر السياسي" تفتح ملف هؤلاء المشردين وتناقش هذه الظاهرة وانعكاساتها على المجتمع وسبل إيجاد الحلول المناسبة لها.
عمل شاق
عبد الرحمن شاب في العشرين من عمره.. توفي والده وهو في سن الرابعة، حُرم من حنان الأب وعطفه، وما هي إلا أشهر قليلة حتى حُرم أيضاً من حنان الأم التي انتقلت لتعيش في بيت والدها وتزوجت فيما بعد، ليجد الطفل نفسه وحيداً في بيت جده الذي توفاه الله بعد سنين قليلة، وتشرد الطفل الذي راح يبحث عن عمل يعتاش من خلاله، فورش إصلاح السيارات كانت المأوى.. انتقل عبد الرحمن من ورشة إلى أخرى.. عمل شاق قضى على نعومة طفولته البريئة، لكن ظروف الحياة وقسوتها خلقت منه رجلاً عصامياً اعتمد على نفسه، وشق طريقه من وسط الصعاب.. يقول عبد الرحمن لـ "البيادر السياسي" لم أكن أتوقع أن تكون الحياة بهذه القسوة، فقد حُرمت من أبسط حقوقي كطفل، وفجأة وبدون سابق إنذار وجدت نفسي في الشارع دون أي ذنب اقترفته، بحثت عن عمل فلم أجد سوى الورش، وبحثت عن مأوى فلم أجد سوى هياكل السيارات "الخردة" للنوم بداخلها، فلا أب يحميني بعطفه، ولا أم تدفيني بحنانها، ولا عم يسأل عني، ولا خال يعطيني عدية العيد، مؤكداً أنه عاش حياة صعبة، ولم يجد طعم السعادة والفرحة كباقي أقرانه، ولا يزال يعيش في الورشة التي يعمل بها، فلا بيت يأويه، ولا أحد يسأل عنه، شردته ظروف الحياة، وجعلته منغمساً في عمل شاق قضى على أحلام طفولته البريئة.. فهل يلتفت المجتمع لمعاناة هذا الشاب وأقرانه.. ؟
حنان مفقود
أما صلاح فهو طفل في الثانية عشرة من عمره.. يقف على مفارق الطرقات يبيع المحارم لكسب قوت يومه.. عندما سألته "البيادر السياسي" عن أحواله تفاجأت أنه يحمل قصة مليئة بالألم، فهو يُجبر على الوقوف في الشوارع ليبيع المحارم من قبل والده الذي لا يعمل.. أب بلغت به القسوة لدفع ابنه للعمل في سن مبكرة من أجل كسب الفتات من النقود التي لا تكفي لسد رمق طفل من أطفاله، مما دفع هذا الطفل للهرب من البيت، والبحث عن مأوى آخر بعيداً عن إهانات والده وضربه المتكرر له كلما عاد إلى البيت دون أن يعطيه النقود المطلوبة.. يقول صلاح (وهو اسم غير حقيقي) أطلقه على نفسه- أنه يعيش متنقلاً من بيت إلى بيت، تارة عند عمه، وتارة أخرى عند خاله، وتارة ثالثة عند أحد أصدقائه، سئم الحياة وقسوتها، كان يتمنى أن يعيش كباقي الأطفال وسط أسرته، يتمتع بحنان أمه وأبيه، لكنه لم يختر قدره، ولم يتمن الطريق الذي سلكه، فهو يهرب من عذاب والده واستبداده له، ليتشرد من بيت إلى بيت بحثاً عن الحنان المفقود..!.
أمر غريب وعجيب
رئيس التجمع المدني للحرية والعدالة تحسين أبو عاصي عبّر عن استغرابه لوجود هذه الظاهرة في غزة، وقال لـ"البيادر السياسي" لم نكن نتوقع أن مثل هذه المشكلة موجودة في غزة، صحيح أنها منتشرة في مجتمعات عربية، لكن في غزة استغربنا وتفاجأنا عندما علمنا بها، وهو أمر غريب وعجيب، لأن مجتمع غزة يرفض أن يكون فيه طفل أو شاب مشرد، فلدينا القيم والأخلاق والعطف والكرم والإيثار والتضحية بفضل الله رب العالمين، مؤكداَ أن هؤلاء المشردين لا مكان لهم ولا مأوى، وهم يبيتون في الشوارع والطرقات والمساجد، لافتاً إلى أن البعض منهم له أهل تخلوا عنه، والبعض الآخر ليس له أهل.
وأضاف: جاءني طفل إلى مقر التجمع وعرض عليّ مشكلته وهي معقدة وشائكة، فهو في السادسة عشرة من عمره، لكن شكله الخارجي يوحي بأنه ابن الثانية عشرة سنةً، فعندما قابلته أبلغني أنه منذ تسع سنوات كان يفترش الأرض ويلتحف السماء، إلى أن رحمه البعض وأسكنوه في مسجد علي بن أبي طالب في حي الزيتون بمدينة غزة، وأضاف: كانت طفولته تقصد الأسر الغزاوية؛ تطلب الطعام والمبيت، فبعض الأسر كانت تشفق عليه بالقليل من الطعام، وبعضها كانت تتردد خوفا من أن تكون وراءه حكاية توقعهم في مساءلات قانونية، وأضاف أبو عاصي: لقد تعرض الطفل للخطر، فضربته صعقة كهربائية لكن الله لطف به، وأُصيب بحالات من التشنج، واضطر إلى العمل هنا وهناك، تاركاً المسجد الذي يأويه، باحثاً عن مصروفه الشخصي وثمن ملابسه وطعامه..!.
الهروب من العذاب
وحول ما إذا كان له أسرة أو أهل أوضح أبو عاصي أن الطفل فارس لا أب ولا أخ له، ولا قريب ولا جدة ولا جد، ولا خال ولا خالة، ولا عم ولا عمة، باستثناء عم واحد قعيد، يقول فارس أنه كان يعذبه أشد العذاب؛ لذلك اضطر للهروب من بيت عمه، وقال فارس: أنه كان له عمين فقط، عم مات، وعم ترك غزة وذهب ليعيش في الأردن .
وأضاف أبو عاصي: كان فارس يسكن مع جدته منذ طفولته حتى توفاها الله، وعاد البيت إلى أصحابه بعد وفاتها، وبدأت حكاية تشرده، فلا مأوى له، مشيراً إلى أن أباه مات وهو في بطن أمه، وتزوجت أمه من رجل رفض أن يأوي الطفل فارس لديه، وكان يتردد على أمه بمناسبات الأعياد فقط، حتى أنه لا يعرف الآن أين تسكن.
وأشار أبو عاصي إلى أنه يسعى إلى تبني هذا الطفل في بيته ويربيه، عملاً بقول الرسول عليه الصلاة والسلام"أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " مشيراً إلى أن كل من سمع قصة هذا الطفل الذي ينام في المسجد منذ تسع سنوات بكي من شدة التأثر بها، وقال كيف لأم أن تترك طفلها كهذا؟ وتساءل أبو عاصي عن دور التنظيمات الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني في حماية هؤلاء الأطفال وإيجاد المأوى والإعالة لهم، وقال: أين دور وزارات الشؤون الاجتماعية ؟ وأضاف: نحن بصدد توجيه رسائل للرئيس أبو مازن ورؤساء الوزراء في الضفة وغزة، ووزراء الشؤون الاجتماعية في الضفة وغزة من أجل تحمل مسؤولياتهم تجاه هؤلاء المشردين، مؤكداً أن الخير لا يجزأ ولا يصنف، وأن هناك واجباً إنسانياً لابد من القيام به.
واجب وطني
ولفت أبو عاصي إلى أن التجمع المدني للحرية والعدالة في غزة لا يزال يتعامل مع مثل هذه المشاكل التي فاجأته باهتمام كبير، يتحرى الدقة بأعظم معانيها ويقف عند مسئولياته كواجب وطني وإنساني، من دون أن يدعم هذا التجمع أحد، ومن دون أن يكون له تبعية لأحد، يقدم خدماته من أموال مؤسسيه والقائمين عليه والمتبرعين من أهل الخير، يخدم بقدر المستطاع فهو ليس للبيع ولا للشراء .
وخلص أبو عاصي للقول"فارس طفل يتيم متشرد، فمن يمسح على شعره ويكون له في كل شعرة أصابت يده حسنة ؟ ومن يتكفله فيكون مع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في الجنة ؟ عملا بقوله :( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ) وأشار بالسبابة والوسطى.
وناشد أصحاب القرار في حكومتي غزة ورام الله ، ومؤسسات العمل المدني وحقوق الإنسان بدراسة حالته، ومع حالة أخرى بين أيدينا سنعرضها قريبا بإذن الله .