حزب العدالة والتنمية يهاجم اسرائيل كلامياً بمباركة اميركية
ويسمح بنشر قواعد للدرع الصاروخي الاميركي في بلاده
هل موقف أردوغان من القضية الفلسطينية
تغطية للدور المناط به للسيطرة والهيمنة على الدول العربية
بعد صدور تقرير الأمم المتحدة المعروف باسم تقرير بالمر (Palmer)، والذي جاء منحازاً للموقف الاسرائيلي بخصوص الهجوم العسكري الاسرائيلي على أسطول الحرية أواخر شهر أيار عام 2010، من خلال اعطاء الصبغة "الشرعية" للحصار الاسرائيلي الجائر المفروض على قطاع غزة، قررت الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان تخفيض المستوى الدبلوماسي بين تركيا واسرائيل، وطرد السفير الاسرائيلي من أنقرة، وتجميد الاتفاقات التجارية والعسكرية المبرمة مع اسرائيل. وفي الوقت نفسه أعلن أردوغان موافقة حكومته على نشر قواعد ومنصات للدرع الصاروخي الاميركي الاوروبي في بلاده لحماية اوروبا من أي هجوم عسكري عليها مستقبلاً، أي أن اردوغان صعّد من موقفه ضد اسرائيل، حليفة الغرب، وفي الوقت نفسه عزز العلاقات العسكرية مع هذا الغرب، أي أنه "ضرب كف وعدّل طقية" كما يقول المثل العربي الدارج.
هذا الموقف أثار العديد من علامات الاستفهام حول الموقف التركي الذي لعب دوراً مشبوهاً وخطيراً تجاه سورية، ويحاول تجميل موقفه تجاه العالم العربي من خلال الهجوم الكلامي على اسرائيل، وفي الوقت نفسه مسايرة اميركا وحليفاتها بتعزيز القواعد العسكرية المتواجدة على أراضيه، والسماح باستخدام هذه الاراضي كمنصة ضد دول الجوار.
انه موقف تركي متناقض، ولكنه خطير جداً، وهذه القراءة له محاولة هادئة لتحليل هذا الموقف أو الدور الذي انيط به، وبعيداً كل البعد عن التجني المسبق عليه، إنها قراءة واقعية واستراتيجية ومتزنة للاطلاع على حقيقة الدور الذي تلعبه تركيا الآن وما تخطط له في المستقبل.
ثوابت أساسية
قبل قراءة الموقف التركي لا بدّ من التذكير بثوابت أساسية وجوهرية في الوضع العام العالمي ومن أهمها:-
· اسرائيل دولة حليفة لاميركا، ولا تسمح اميركا لأحد بمعاداتها، وهي مدللة جداً الى درجة أنها فوق القانون الدولي. وهذا أمر معروف للجميع حتى ان الرئيس الاميركي لا يستطيع "معاداة" أو حتى "انتقاد" السياسة الاسرائيلية لان اللوبي الصهيوني صاحب نفوذ كبير يستطيع أن يرد على ذلك بقوة، وخير مثال على ذلك محاولة اوباما الحد ولو قليلا من سياسة الاستيطان الاسرائيلية في الاراضي المحتلة، إلا أنه فشل، لا بل اضطر في النهاية الى طلب رضى اسرائيل، واصبح تحت رحمة نفوذها في الكونغرس الاميركي.
· تركيا عضو فعال في حلف شمال الأطلسي، وهناك قواعد عسكرية اميركية كبيرة على أراضيها انطلقت منها عمليات عسكرية عديدة في السابق ضد بعض الدول العربية، وخاصة في الحرب الاميركية الاولى على العراق عام 1991.
· خلال العقود الماضية تم التوقيع على العديد من الاتفاقيات العسكرية بين تركيا واسرائيل التي هي عضو مراقب في حلف الناتو ولكنه فعّال الى حد كبير.. وتركيا واسرائيل حليفتان لاميركا التي هي بحاجة اليهما معاً.
· تركيا دولة يمكن اعتبارها دول آسيوية، وفي الوقت نفسه اوروبية نتيجة وقوعها الجغرافي بين القارتين ولها أراض في كل منها. فهي أحياناً تكون دولة شرق أوسطية، وفي أحيان أخرى تكون دولة أوروبية، علماً أن دول اوروبا رفضت قبول عضويتها في الاتحاد الاوروبي، ووضعت شروطاً تعجيزية مقابل ذلك.
هذه الحقائق والثوابت لا بدّ أن تكون في البال، ويجب ألا تغيب عن أي تحليل استراتيجي لقراءة وتحليل الموقف التركي.
ولا بدّ من الاشارة الى أن تركيا حاولت، وما زالت تحاول، الانضمام للاتحاد الاوروبي وفشلت، لذلك تحاول أن تثبت مكانتها أو دورها في المنطقة كي يعطيها ثقلاً سياسياً ما يكون رداً على الموقف الاوروبي أو عاملاً مساعداً لقبولها في الاتحاد الاوروبي مستقبلاً.
القرار التركي ضد اسرائيل
محدود الفاعلية.. و"متفق عليه"!
عندما قرر أردوغان طرد السفير الاسرائيلي من أنقرة تنفيذاً لقرار الحكومة التركية لتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل، كان السفير الاسرائيلي في اسرائيل إذ غادر أنقرة قبل أسابيع من اتخاذ هذا القرار التركي، لأنه كان في إجازة، وفي الواقع ينهي عمله في أواسط شهر أيلول الجاري، أي أن السفير الاسرائيلي لم يطرد!
والقرار التركي بخصوص الاتفاقيات المبرمة مع اسرائيل لم يكن قراراً قطعياً إذ أنه جمّد العمل بهذه الاتفاقيات ولم يقرر الغاءها.
القرارات التركية كانت متوقعة من قبل اسرائيل إذ أن وسائل الاعلام الاسرائيلية لمحت إلى امكانية عدم ارسال سفير جديد الى تركيا بعد أن أنهى السفير الحالي مهامه وولايته، وتوقعت تخفيض مستوى العلاقة الدبلوماسية مع تركيا، وكذلك الاتفاقات العسكرية المبرمة مع تركيا هي شبه مجمدة منذ فترة من الجانب الاسرائيلي لأن الاسرائيليين قلقون من العلاقة التركية الايرانية في الآونة الأخيرة، وحتى أن وزراء اسرائيليين كانوا يرفضون تطبيق هذه الاتفاقيات العسكرية مع تركيا الا بعد الحصول على ضمانات بعودة العلاقات الجيدة بين البلدين، وعدم تسريب التكنولوجيا العسكرية لايران.
ويجب ألا ننسى أن تركيا رفضت المشاركة في المناورات العسكرية المشتركة التي تجريها قواتها الجوية والبحرية مع اميركا واسرائيل في مياه البحر الابيض المتوسط بعد حادثة أسطول الحرية، لكن ذلك لم "يؤذ" اسرائيل إذ أنها وسعت من دائرة تدريباتها في دول أخرى عديدة عوضاً عن تركيا.. كما ان قرار مقاطعة هذه المناورات لا يمس اسرائيل بل يمس أيضاً الحليف الاميركي.
لماذا متفق عليها
من هنا يمكن القول أن هذه القرارات التركية متفق عليها مسبقاً، أو متوقعة منذ زمن، ومباركة من قبل الادارة الاميركية لعدة أسباب وأهمها:-
· هل تسمح اميركا لاية دولة في العالم بمعاداة اسرائيل وخاصة اذا كانت حليفة لها؟ هل تقدر أية دولة اوروبية ان تشن هجوماً ولو كلامياً على اسرائيل من دون رد فعل اميركي عليه؟
· الجانب الاسرائيلي هادىء في رده على القرارات التركية "المعادية" له، إذ أنه "يغازل" تركيا، ويدعوها الى ضبط النفس، وبضرورة التوصل الى صيغة تفاهم أو اتفاق لتجاوز "سوء الفهم الحالي".
· لم يتحرك اللوبي الصهيوني ذو النفوذ الكبير على الساحتين الاوروبية والاميركية ضد تركيا، بل أصدر بيانات هادئة دعا فيها الى تجاوز هذه الأزمة بصورة هادئة.. والتساؤل لو كانت القرارات التركية جادة ومؤثرة على اسرائيل لتم شن هجوم اعلامي اسرائيلي على تركيا "وشل عرضها" كما يقولون.
· تجميد الاتفاقات التجارية المبرمة لا تؤذي اسرائيل بل تمس الاقتصاد التركي الى حد كبير، لذلك فان اسرائيل غير "مكترثة" بمثل هذه القرارات.
· يبدو أن اسرائيل تفهم الدور التركي في المنطقة والذي تم اقراره من قبل الادارة الاميركية، وتعرف جيداً أن هذا الدور هو في نهاية المطاف يخدم اسرائيل واميركا، وان ما تقوم به تركيا ليعزز هذا الدور أو لتسويقه وخاصة في عالمنا العربي.
الدور التركي المطلوب "لعبه"
إذا أردنا أن نقرأ الدور التركي الذي يتم لعبه الآن فعلينا أن ندرك أولاً أن هذا الدور لن ينجح ولن يسمح له باللعب إذا لم يكن مباركاً من قبل اميركا. وهذا أمر بديهي، إذ أن أردوغان مدعوم من قبل الرئيس الاميركي اوباما الى ابعد الحدود، لأن أردوغان استطاع شل أو تجميد دور المجلس العسكري الأعلى في تركيا مع أنه هو المرجعية العليا للحكم، وهو الذي يمنع انحراف تركيا نحو الدولة الدينية، لكن اوباما الذي له نفوذ كبير في هذا المجلس العسكري بصفته رئيس الادارة الاميركية سمح بذلك حتى يؤدي أردوغان هذا الدور.
كما ان "اوباما" انتخب رئيساً للولايات المتحدة ليحدث تغييراً في السياسة الاميركية العامة من مواجهة ومحاربة الاسلام الاصولي المتطرف الى تبني الاسلام السياسي الليبرالي المعتدل، وكلمة اوباما في جامعة القاهرة في حزيران 2009 وجهت الى العالم الاسلامي طالباً فتح صفحة جديدة من العلاقة. واردوغان هو البطل الاساسي لهذا الفيلم أو السياسة الاميركية في منطقة الشرق الأوسط.
وحتى يفهم الغرب ويدرك أن اردوغان يقوم من خلال "معاداته" لاسرائيل بدور لصالح الغرب، فإنه أعلن وبصورة واضحة قبوله لنشر قواعد للدرع الصاروخي الاوروبي الاميركي المشترك، أي أنه قال لهم: أنا حليف لكم، وما أقوم به هو "تمثيل" لدور لا بدّ من "العبه لصالحكم"، ولتنفيذ خطة أو فيلم هو من اخراج الرئيس الاميركي باراك اوباما، "فكل ما اقوم به هو لصالحكم وفي خدمتكم، ويؤكد اني "أهل لاكون عضوا في اتحادكم الاوروبي"!
والتساؤل المطروح: ما هو هذا الدور المطلوب أن تلعبه تركيا في المنطقة.
والجواب بسيط وهو تمرير مخططات الادارة الاميركية في تفتيت المنطقة؟
والسؤال الآخر رداً على هذا الجواب: وكيف يكون هذا؟ والاجابة عليه بسيطة من خلال اقامة صداقة مع الدول العربية وتعزيز شعبية تركيا، وفي الوقت نفسه دعم كل ما تعرف بالثورات الشعبية ضد الانظمة العربية. فتركيا موجودة في هذه "الثورات" عبر تيار الاخوان المسلمين المعتدل.. وتركيا كانت من الدول التي طالبت بتنحي الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، والرئيس المصري حسني مبارك، وتشارك في عمليات "الثوار المعارضين" العسكرية للقضاء على حكم القذافي. وها هو أردوغان يزور مصر وتونس وليبيا من أجل تأكيد وجود له في هذه الدول، ولتعزيز نفوذه من خلال دعم الاحزاب الموالية له في هذه الدول التي سيزورها أو تلك الدول التي يسعى الى تفتيتها وتقسيمها ومنها "سورية" التي فضحت هذا الدور وكشفته امام الرأي العام كله سواء داخل سورية أو خارجها، لذلك كان لا بدّ من اعادة تجميل الموقف التركي، وذلك من خلال تصعيد لغة المواجهة الشكلية مع اسرائيل التي قد تكون لها أهداف أخرى على الساحة الفلسطينية ذاتها.
واذا نجح أردوغان في لعب دوره من خلال الاداء الجيد، فانه سيكون الزعيم الأوحد لعالمنا العربي، وستكون أوراق المنطقة في يده، وسيستخدمها لتحقيق مكاسب خاصة بتركيا يجنيها من المعلم الاميركي.
العقبة الأساسية: سورية
لم يتوقع أردوغان ان تكون العقبة الاساسية لدوره هي سورية، لذلك صب جام غضبه عليها، وحاول المستحيل لدعم ما يسمى المعارضة، والمسلحين الارهابيين، لكن القيادة السورية كانت حكيمة وهادئة في تعاطيها مع هذا الدور القذر لاردوغان، وها هي الأيام تكشف هذا التورط التركي في مخطط تفتيت العالم العربي، وتؤكد سورية للعالم أجمع أن ما تتعرض له هي مؤامرة كبيرة جداً ستحبط قريباً بهمة ووحدة الشعب السوري الذي يعي خطورة هذه المؤامرة التي تستهدف أولاً وأخيراً الاستقرار السوري، والنيل من سورية ومصادرة دورها الاقليمي لتستولي عليه تركيا.
هذه العقبة السورية أجبرت أردوغان على اطالة أمد الفيلم الاميركي الذي يلعب بطولته ليضم اليه حلقة أو أكثر عن "توتر" العلاقة مع اسرائيل ظناً منه أن هذا الموقف التركي سيمر على أمتنا العربية، وسيدغدغ مشاعرها؟
الدور الاستراتيجي الاكثر خطورة
دخلت اميركا على خط تركيا، بعد أن اكتشفت ان الرئيس السوري يعمل جاهداً على تشكيل منظومة ما في منطقة الشرق الأوسط، تضم تركيا وسورية ولبنان والعراق وايران. تركيا تراجعت قليلا، بل بالعكس تحولت الى خنجر لطعن سورية، فإذا سقطت، سقطت معها هذه المنظومة التي قد تشكل خطراً على المصالح الاميركية في منطقة الشرق الأوسط.
وجاء قبول تركيا بنشر الدرع الصاروخي على أراضيها لكي "تبتز" روسيا، وتطالبها بوقف دعمها لسورية، مقابل الغاء السماح بنشر هذا الدرع، وكذلك لتبتز ايران بنفس الاسلوب لان الدرع الصاروخي في تركيا هو موجه عملياً لكل من روسيا وايران، ولمراقبة تحرك القوات في البلدين وتضييق الخناق العسكري عليهما، ولكي تكون لاوروبا اليد الطولى في توجيه ضربات لكل من يخالف السياسة الاميركية في الشرق الأوسط.
والدور الأكثر خطورة هو تفتيت العالم العربي، ودعم القوى الدينية الاسلامية الليبرالية التي هي على شاكلة حزب العدالة والتنمية التركي للسيطرة على العالم العربي، وبعد ذلك تبتز هؤلاء، فأما الخضوع للمطالب الاميركية، وإما مواجهة مصير صعب، وطبعاً سيضطرون للخضوع للادارة الاميركية لانهم "أتوا" الى الحكم عبر دعمها لهم.
الهدف الاول والأخير هو سيطرة التيارات الدينية على الحكم في منطقة الشرق الأوسط حتى يحلو لاميركا خلق عدو هو "الاسلام السياسي" الحاكم في العواصم العربية أو ترويضه عبر علاقاته مع تركيا، أي تحويل تركيا كعراب أو مستعمر جديد للمنطقة.
حذار من دور ونفوذ أكبر
لقد تكشف الدور التركي بشكل جلي، لذلك يجب ألا تنطوي على أحد هذه اللعبة التركية أو هذا الفيلم التركي بطولة أردوغان، فعلى العالم العربي أن يضع حداً للتدخل التركي ويوقف الامتداد الثقافي له عبر تشجيعنا لكل أمر تركي.. ولكن هذا التشجيع استغل بصورة وبنوايا سيئة.
إذا تم التعامل مع تركيا بشكل أكثر وضوحاً، ووضع حد لتدخلها في شؤوننا العربية، فإن تركيا ستتراجع كثيراً عن مواصلة لعب هذا الدور خاصة اذا شرح للشعب التركي ما يقوم به أردوغان من دور قد يسيء لتركيا ويدخلها في متاهة قوية.
العلاقة مع تركيا الشعب يجب أن تكون قوية، أما العلاقة مع الحكومة فيجب أن تكون أكثر وضوحاً وحسماً ويجب القول لقادة حزب العدالة والتنمية: كفى تدخلاً بالشؤون العربية، ولن تحظوا بورقة الوطن العربي لتساوموا الغرب عليها.. وستفشل مخططات اميركا، والفيلم التركي سيحترق لانه لن يجد أحداً يريد مشاهدته أو التعامل معه، ولن يحظى إلا بوسام الخزي والعار لممثليه ومخرجه!