أربع ساعات في شاتيلا عادلت في رأس جان جينيه سنوات ضوئية من الكوارث والدماء والويلات. أربع ساعات قضاها يعاين بذاءة الموت وحمّام الدم المنسكب بعد المذبحة التي ارتكبت يوم الخميس 16-9-1982 على يد القوات اللبنانية، الجناح العسكري لحزب الكتائب اللبناني والجيش الإسرائيلي. تفقـّـد جينيه في زيارته رداءة المشهد، وعدمية الموت في الأجساد الهامدة والملقاة في وقاحة عبثية في كل مكان. بعيدا عن أي مسرحية من تأليفه، شرع جينيه بكتابة وثيقة شبه حيّه، حاول من خلال اللغة رغم اعترافه بقصورها- لكن باستخدامها كأداة ووسيط يبث مقاربة لما قد جرى بعد ثلاثة أيام من هول المجزرة - وصف الجثث المعكّر صفو جلدها بلونين أزرق ضارب الى البنفسجي، أراد جينيه لو استطاع تجميد اللحظة، ليس لجماليتها، وانما لنقلها ذات البشاعة وتلك الرائحة العفنة التي تفيض في الفضاء، فتضحي مألوفة لدى الأنف ممزوجة بأنس مزعج وكريه. فقد أحسّ جينيه بعد وقت قصير بالرائحة تتلبّسه وكأنها أصبحت تنبعث من جسده!
كالمفجوع يتلوى من فرط حزنه، وصل جينيه لحالة تصدّع داخلي موجع، اذ بدأ يتساءل فيها عن ماهية العدو، وأطلق العنان لخياله محاولا تشخيصه وزجّه في أقرف القوالب الحيوانية وليس البشرية! شرّح جينيه المخيم، وكتب لأنه أحس بوخز واستفزاز لانسانيته، شعر بجريمة كونية ضد الوجود، وقد لامس الموت وتجوّل حوله وجاوره، فتحدث عن صدق المكان، بقوله "انني أكتب هذا الكلام في بيروت، حيث كل شيء أكثر صدقاً مما هو عليه في فرنسا، ربما بسبب مجاورة الموت ".
قد يكون جينيه منحازا للقضايا الكبيرة كقضية الفلسطينيين، ويعود ذلك لعدالتها وسموّ الكرامة في الأرواح الحرّة والرافضة للذل، كون المرء لا يستطيع الوقوف محايداً وهو يرى الوحشية والتعذيب المتجسد في قدم مبتورة وجسد تتكوّر في ثناياه آثار دامية، ناهيك عن الأحلام التي بترت لدى سكان المخيم، تلك الأحلام الكبيرة التي لمّا اكتملت بعد بالعودة.
وصف الفدائي:
أخذ جينيه بوصف للفدائي الفلسطيني في أول مذكرته، وهو جدّ مندهش من النور الذي يُشِعّه، فوصف تلك الصرامة التي ما انفكت ترافق الثائر أينما ذهب، تحدث جينيه عن ذلك الشيء الثابت، المترصّد، المتحفظ، المصون، مثل شخص يصلي من دون أن يتلفظ ببنت شفة. كل فدائي متلازم معه سلاحه الذي يمدّه بالرجولة، بالكينونة، بالوجود. كان قد نشأ بين كل جندي وسلاحه علاقة حب وافتتان. يقارب جينيه من رؤيته للفدائيين والثورة الفلسطينية المتمكّنة من خلاياهم، بقيمة (الجمال) لما رآه فيهم.
بالمقابل، كانت الصورة النمطية عن الفلسطينيين تجتاح أذهان الأوروبيين لما تلقّوه من الصحافة الأوروبية من وقاحة الحديث عن الفلسطينيين على حدّ تعبير جينيه.
جينيه يلتقط صورة الموت:
التقط جينيه صورة للموت، فوقف للتحدث عن الماورائيات الكامنة في العالم، عن الطاقات اللامرئية التي تحرك العالم "كالموت والحب"، عن هذين المكوّنين الثقيلين في المحيط الوسيط بيننا، وكيف تتساوى في عدمية اللحظة الثنائيات المتقابلة فتتواجد منصهرة معاً!
كان من الصعب على العقل البشري لدى جينيه أن يترجم ما تراه عيناه. وكيف سينقل صورة كونية عن المخيم، عن كل تعدادات القتلى، وعن هول المذبحة، وتلك الرائحة الكريهة النابعة من الجروحات المتعددة، وعن الذباب المتراكم في حركته العشوائية المفتوحة على الدم. كيف سينقل بصورة حركية ضيق أزقة المخيم والبرد الذي يجتاح أزقة الروح لرؤيته، والقفزات التي كان لا بدّ منها عند الانتقال من جثة الى أخرى.
مخيلة عن احتمالات ما قبل الموت:
شرع جينيه بتصور توجسات الألم التي عاينتها كل جثة قبل الموت، فاستحضر كافة الاحتمالات في مخيلته التي استقبلها ذلك الجسد الهزيل والمدة الزمنية التي تلوّن فيها الجرح، وعن آخر الحركات الدفاعية التي قام بها الجسد الهشّ في مقاومته للموت.
"أول جثة رأيتها كانت لرجل في الخمسين أو الستين من عمره، وكان مهيأ ليكون له إكليل من الشعر الأبيض، لولا أن شرخاً (ضربة فأس، فيما خيّل الي) قد فتحت جمجمته. جزء من النخاع المسوّد كان ملقى على الأرض الى جانب الرأس. وكان مجموع الجسد مسجىً فوق بقعة من دم أسود ومتخثر. لم يكن الحزام مشدوداً. والبنطلون ممسوك بصدفة واحدة. كانت رجلا الميت وساقاه عارية، سوداء، بنفسجية وخبازية اللون، ربما فوجئ في الليل أو عند الفجر؟ هل كان بصدد الهرب؟"
وعن جثة أخرى، تساءل جينيه: هل تم جرّ الجثة بهذا الحبل عبر الأزقة؟
تغيرت معالم المخيم، فكانت حواشيه الضيقة وهوامشه العتيقة تنقسم بين جثث مبعثرة، يقول جينيه: "كنت موزعا بين رجال في الخمسين، وشبان في العشرين، وامرأتين عربيتين عجوزين".
وعن جثة ثالثة لامرأة عجوز، أخذ جينيه يرجح احتمالات واردة عن انتفاخ وجنة السيدة ولونها الغريب، فقال: "هل كان ذلك كدماً أن أنه الأثر الطبيعي للتعفّن تحت الشمس؟ هل ضربوها بعكّاز؟ أصابع يديها كانت مروحية الشكل، والأصابع العشرة مقطوعة، وكأنما قطعها مقصّ بستانيّ".
لا بد أن الجنود قد استمتعوا بعذابات الآخرين بوحشية لا مثيل لها، لا بل وأبدعوا في تصوّر أشكال ووضعيات للقتل العمد، كما فعلوا بأصابع المرأة المبتورة. فلم يكترثوا أو يفرقوا بين رجال أو نساء، كان تعذيباً طويلا وليس قتلا عشوائيا طليق.
دهشة أخرى أصيب بها جينيه عندما شاهد ساقا اصطناعية من البلاستيك، كانت قد انتزعت بخشونة من الساق المبتورة، كما أن الأحزمة التي تشدّها من الفخذ كانت مقطوعة كلها.
تأويل آخر لجينيه، تأويل يلائم المسرح عن حالة الشهداء قبل المجزرة وعن آخر حركة قاموا بها قبل عبور البرزخ الى الضفة الأخرى أي "الموت". حتى الانتحاب لم يقتصر في التاريخ على نساء أورشليم في بكائهن على المسيح قبيل الصلب، بل انه تطابق مع حال امرأة كانت تبكي وتنوح على أخيها، لم يفرق جينيه ان كانت في السادسة عشرة أم في الستين من عمرها، فالانتحاب لا ينطوي مقتصرا على عمر معيّن. وقد كان وجهها محروقا بسابق الاصرارا على الحرق.
يلخص جينيه الى الحقيقة التالية: "ان قاتلين قد أنجزوا العملية، لكن جماعات عديدة من فرق التعذيب هي في غالب الظن التي كانت تفتح الجماجم وتشرّح الأفخاذ، وتبتر الأذرعة والأيدي والأصابع وهي التي كانت تجرّ بوساطة حبال محتضرين معاقين رجالاً ونساء كانوا ما زالوا على قيد الحياة".
حقائق وبيانات ومؤامرة متعددة الأقطاب:
زجّ جينيه ببيانات وحقائق تاريخية من خلال مذكرته، اذ يقول:
"بشير الجميّل يزور بيغن في اسرائيل متخفياً ما أمكن. تدخل القوات الثلاث (الأمريكية والفرنسية والايطالية) ينتهي يوم الاثنين. يوم الثلاثاء يُقتل بشير الجميّل، وصباح يوم الأربعاء تدخل القوات الاسرائيلية الى بيروت الغربية".
وبشهادة أخرى من امرأة ستينية لجينيه، قالت: "كان يتحتم على بشير أن يرجع تلك الرسالة التي يخاطبه فيها بيغن ب : صديقي العزيز!".
"حتى أنت يا بروتوس"!:
زج جينيه بتجربته الشخصية عما رآته عيناه.
"وبما أن الجنود الاسرائيليين أتوا من جهة الميناء، فقد كانوا يزحفون على بيروت صباح دفن بشير الجميّل، ومن الطابق الثامن للعمارة التي أسكنها، كنت أراهم بواسطة منظار مقرّب، يصلون في شكل صف هندي: صف واحد. تعجّبت من أن لا شيء آخر يحدث، لأن بندقية منظار جيدة كانت قادرة على أن تسقطهم جميعاً".
وهنا تساءل جينيه عن عدم وجود مقاومة لبنانية، فقد كان هناك مؤامرة لبنانية اسرائيلية قد حيكت مسبقاً للقضاء على المخيم الفلسطيني عن بكرة أبيه! تدق هذه الشهادة الحية ناقوس الفجيعة وعن مدى التنسيق الأمني المعمول به لانهاء مهمّة ما ضد اللاجئين الفلسطينيين.
تعدد الفرق المشاركة في المؤامرة:
أدخل جينيه في مذكرته شهادات حية من كتاب لبنانيين كانوا قد رافقوه في الزيارة التفقدية للموت في المخيم، وأدلوا عن مكنوناتهم، كالكاتب اللبناني الذي شاركه ما يلي:
"كانت اسرائيل قد تعهّدت أمام فيليب حبيب، ممثل الحكومة الأمريكية بألا تدخل بيروت الغربية، وتعهّدت بالأخص أن تحترم سكان المخيمات الفلسطينية المدنيين. ويوم الخميس بدأت مذابح شاتيلا وصبرا. سيكون جدّ سهل على اسرائيل أن تتخلص من كل الاتهامات. فقد شرع صحفيون في جميع الصحف الأوروبية من تبرئة ذمّة الاسرائيليين، لا أحد منهم سيقول أن الحديث خلال ليلتيّ الخميس والجمعة كان يدور باللغة العبرية داخل مخيم شاتيلا".
ان دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ على التآمر والمؤامرة الداخلية والخارجية ازاء فلسطينيّ المخيّم، فعملية "التنظيف" التي مورست والاجلاء كانت قد تمّت بقذارة بتدخل وتنفيذ من المحيط اللبناني. وهذا ما يميّزها عن أية مجزرة ارتكبت من عدو ازاء آخر.
وفي مكان آخر في شهادة جينيه، يعود جينيه ليذكر التحالف الكتائبي الذي حدث مع جيش الاحتلال الاسرائيلي وبضوء أخضر منه، فيقول: "يا لها من مآدب فاخرة تلك التي أقيمت حيث الموت كان يبدو وكأنه يشارك في مسرّات الجنود المنتشين بالخمرة والكراهية. ولا شك أنهم كانوا منتشين أيضاً بكونهم قد نالوا إعجاب الجيش الاسرائيلي الذي كان يستمع وينظر ويشجع ويوبّخ المترددين في قتل الأبرياء".
الصلاة واجب أمام الفجيعة:
أحس جينيه بتوحد رائحة الموت وكأنها جزء منه، اذ لم يعد قادرا أن يميّز الرائحة النتنة للجثث التي تلبّست أنفه، وكأنه ألفها. كما أحسّ بالحاجة الى الصلاة والى التعبّد الى المشيئة الكونية -العقل الالهي- للترحم على الشهداء، والتشفع لهم، علّ أرواحهم تنتقل وتعبر البرزخ السماوي بالسلام. تألّم جينيه بعد تنبهه أن ثمة لا أحد سهر على الموتى ليتلو نشيدهم، ولم يطلق بعد لا الصلاة ولا التراتيل في عنان السماء. لقد شعر جينيه بالحاجة الى حالة سماوية فائقة للطبيعة تستطيع أن تترحم على الكم الهائل من أكوام اللحم!
وسط المشهد المروّع من التراجيديا السوداء، لمعت فكرة ساخرة رأس جينيه، فهمّ يحسب الأمتار اللازمة من الكفن لتشمل الجميع، كما أخذ يعدّد الألواح والنجارين لصنع النعوش. حين تخرج مهنة فجأة من صفوف البطالة الرائجة، ليصبح حفار القبور الأكثر طلباً ورواجاً، يكون البغض والسواد قد خيّما على نفوس الأحياء الوحشيين والموتى الأبرياء. هكذا.. اتشح المخيم بالأسود يبكي على ما تبقى منه.
جينيه.. متّهم حتى تثبت فلسطينيته
يظل الهاجس الأمني هو الشاغل وسط هذا النوع من التوتر في صياغة العلاقات الحذرة وانقسام الجميع الى معسكرين: مع وضد. نميل بطبيعتنا الى التصنيف، الى غربلة البعيد من القريب، وهذا ما حصل مع جينيه. تم اقصاؤه في البداية حتى ثبتت "فلسطينيته"، وانضم الى صفوف الفدائيين حتى أطلقوا عليه اسما حركياً (الملازم علي)!
بغض النظر عن الاجراءات التشكيكية، الا ان المراقب عادة يكون ذلك المحايد السلبي الذي لا يقوم بشيء انما المشاهدة، وهنا ينبع سؤال ملغوم: هل كان يترتب على جينيه فعل شيء ما بدل مشاهدة المجزرة عن بعد والنظر الى الجنود الاسرائيليين وهم يعتلون مستشفى عكا؟ ربما لم يكن بوسعه فعل أي شيء، لأن عدمية الأشياء كانت متجسدة، وربما قاوم بكتابته هذه الشهادة القوية، الا انه كان دخيلا يصف الأشياء بدقة غير معاشة، أي بعد موت اللحظة. بالرغم من اثارة البعد المذكور والجدير بالتفكير، معاكسة الأدوار قليلا، ومشاكسة الواقع مع ما يدور في ذهن الوسواس الخناس، الا اني أراه مراقبا فاعلاً، ربما كان يلبس خوذة حامية بجواز سفره الأجنبي، وبزيارته التفقدية بعد انتهاء مفعول الموت المتربّص بالمكان والأشخاص، الا أن اعادة سرد الأحداث بالكتابة هي نوع من الوفاء، والاخلاص لفكرة. هل المشاهد متواطؤ مع الجلاد؟ هل الكاميرا هي وحش يمسخ الحدث؟ أسئلة قائمة لا أستطيع جزمها بنعم ولا بائستين وانما جواز التفكير بالمنحى الذي تطرحه.
الفلسطيني جينيه:
قد توحّد المأساة الشعوب وتمزجهم في بوتقة واحدة، ويكون نور الشمس المدلهم فوق بقعة معينة لعنة تحرق الأخضر واليابس بغير تفريق، فتنعدم الطبقية ، وتنسحق التراتبية ليتبوّأ الموت عرش الجحيم الأرضي ويصبح الناطق "بغير حق" بسواسية اجبارية.
لما انقطعت جميع الوسائل الخدماتية عن المخيم والأرجاء المحيطة، من كهرباء، وتلفون، وانقطاع الطرقات، وحرم جينيه كالباقي من التواصل مع العالم الخارجي، لم تعد الجنسية تفي بشرذمتها وخصوصيتها، فيغدو الانسان هو الجامع بكل ما في وجهه من تقاسيم رعب وخوف، ويصبح المستقبل المبهم والحظ في الحياة هما المحددان القدريان لدى الناس. هكذا شعر جينيه بالتوحّد مع الفلسطينيين بقوله: "أحسستني لأول مرة في حياتي، أصير فلسطينيا وأكره اسرائيل". تجرّد حينها جينيه من جنسيته ليلبس بزّة "انسان"، بالرغم من أن الموت كان يلاحق الجنسية الفلسطينية فقط من دون الجنسيات الأخرى، وعليه أضحى جان جينيه فلسطينيا في رصد بؤس الحالة.
النساء الفلسطينيات: ملح المخيم وسراج يضيء طريق الحرية
يصف جينيه المرأة الفلسطينية بكامل أنوثتها ونضالها ومقاومتها، كأن الحرية تأتي من رحمها، من امدادها العزم والثبات لرجلها، وانجابها مقاوم صغير سرعان ما سيلفى كبيرا. كانت مستعدة دوما لاستثمار لاحق للحرية مضحية برجلها وأولادها، ومستعدة دوما لصنع المزيد وندر أولادها قرابين للثورة. مثير أن يفهم فرنسي حداثي عقلية الفلسطينيين بكامل العزّة والكرامة؟! والمثير أيضا كيف يرجح جينيه كفة المرأة الفلسطينية على رجلها الفدائي والثائر في الجبل بطريقة مثيرة تستدعي للتساؤل، كيف يستطيع فرنسي مُثلي أن يفهم ويصف بعمق المرأة الفلسطينية بكامل عنفوانها وجسارتها.
فيقول: "أما عن النساء وجمالهن، فإن تفسير تألّقهن سيستلزم مناقشة طويلة ومعقدة، أكثر من الرجال ومن الفدائيين في المعركة، كانت النساء الفلسطينيات يبدين قادرات على مساندة المقاومة، وتقبّل التجديدات التي تحكلها الثورة. كنّ قد عصين العادات: نظرة مباشرة لنظرة الرجل، رفض للحجاب، شعورهنّ مرئية وأحيانا مكشوفة تماماً، أصوات دون تصدّع. إن أقصر وأبسط مسعى من مساعيهنّ كان جزءا من زحف يسير بخطى واثقة نحو نظام جديد، وإذا فهو مجهول لديهنّ، لكنهنّ يستشعرن التحرير وكأنه حمام مطهرّ بالنسبة لهن، وافتخار مضيء بالنسبة للرجال. كن مستعدات لأن يصبحن في آن زوجات وأمهات للأبطال، مثلما كنّ كذلك من قبل بالنسبة لأزواجهنّ".
يتابع جينيه وصف امرأة فلسطينية عن كثب، كان وجهها قاسيا لكنه لم يكن حقودا. وقد فرّق جينيه بين القساوة المصطنعة لحجّة قضاء مهمة والحقد المزروع بجبال البغض والكراهية. فالنساء الفلسطينيات لا يعرفن الحقد أبدا. كانت المرأة حسب وصف جينيه تنتظر وقدماها عاريتين، مرتدية فستانها المزين بشراط على حافته وعند الأكمام. وقد تبيّن فيما بعد أن المرأة كانت عندما تدخل الغرفة المخصصة لها في مقرّ الحراسة ترفع فستانيها الأسودين وتفك جميع الأظرفة والرسائل التي كانت مخاطة داخلهما، ثم تصنع منها رزمة وتسلّم الرسائل الى المسؤول.
فلسطين... اليتوبيا
كان جينيه واعيا لمسألة ترسيم الحدود، ومن أين جاءت تقسيمات بلاد الشام. فوهم الحدود مسألة متخيلة، وقد جاءت بتخيّل إداري وسياسي قرّرته فرنسا وانجلترا وتركيا وأمريكا. يقابل جينيه ذلك مع فلسطين المتخيّلة في أذهان الفلسطينيين – فلسطين الحلم- عند الصغار والكبار والعجزة. وقد ذكر جينيه نسوة عجائز ما زلن يبصرن فلسطيناً لم تكن توجد عندما كان عمرهن ست عشرة سنة، لكن كانت لهنّ على كل حال أرض. كن حسب تعبيره "المسرّة"، فقد كنّ الأكثر فرحا وانشراحا لأنهن الأكثر بؤساً. لقد أضحى حلم النسوة العجائز مساوِ لعمر الخيبة لديهن، يوم هجّرن من بيوتهنّ في فلسطين، وهم يحملون كل اليقين والايمان أنهم عائدون. أضحى كل منا يحيك حلماً فلسطينيا خاصاً به، حلماً يوتيوبياً بفلسطين المثالية الموجودة في رأس وقلب وذهن كل منا.
الايمان والارداة.. فعلا مقاومة
ثمّة ايعاز صوفي مليء بالايمان والارادة لدى النساء الفلسطينيات. فإنهن يضعن السبابة على نهاية الجملة ويضغطن على الحروف الصوامت التفخيمية فيها، مما يعكس ايماءتهن البطولية والمقاومة تماما كالفدائيين. فهذا الوعيد المتوجّس بسبابة كل منهم يدل على ايمان قاطع بما يقلن. ويرى جينيه حركتهن هذه مقابلة لفعل مقاومة، لو عرف الجنود الاسرائيليون بقوّته الموازية بتحديات ووعيد، لأطلقوا على جماجمهن طلقات رشاشهم!
يمتد جينيه ليصف تمسك الطاعنين بالسن بمخيّمهم رغم رداءة حالته، فكبرياؤهم كافٍ لقبول بؤس حالهم، ينعفون على جرحهم ماء الورد، أراد جينيه القول أنه قد تتكاثر الويلات، وقد تكوّن ثقبا مهترئا في القلب، والقلب عضلة تتمدد وتتقلص حسب خرائبه، الا أن قلوب الفلسطينيين قوية، وحده الكبرياء فعل مقاومة، اذ يقول جينيه: "بيوت من القصدير، وخيم مثقوبة تسكنها أسر كبرياؤها مضيء. لا نكون قادرين على فهم القلب البشري اذا أنكرنا بأن أناساً يستطيعون أن يتشبّثوا بالبؤس المرئي، وأن يزدهوا به، وهذه الكبرياء ممكنة، لأن البؤس المرئي يقابله مجد مستتر".
احتمالات الضرر.. العمارات الليغو!
لم يسلم شيء في بيروت، فالعمارات أصبحت جد محطمة بعدة أشكال. يلتقط جينيه صورا بوصفه العمارات الممزقة من الداخل والخارج، والانزياحات في الطوابق، والشروخ المتوسطة قلب العمارة من السطح حتى الجوف.
من هو المتّهم؟
في النصف الأخير من المذكرة، عمل جينيه على اضاءة الأسئلة الهامة والمباشرة جدا وسط شيوع الرواية الاسرائيلية عن دخول المخيم ليلة السبت بصدد ايقاف ما حدث، فكان السؤال الأبرز: "من كان يطلق النار حقيقة؟ من كان؟ الكتائب؟ الحداديون؟ من؟ وكم عددهم؟"
أما عن سؤاله عن الأسلحة التي تم استخدامها للمقاومة والدفاع عن النفس، فحسب مشاهدة جينيه فإنها لم تتعدى قطعتين من السلاح المضاد للدبابات، وقد كانتا غير مستعملتين.
يشير جينيه الى ما تم نشره في الصحف الاسرائيلية تبريرا للمذبحة، أن الاسرائيليين دخلوا الى شاتيلا بمجرّد ما علموا بالمذابح، وبأنهم أوقفوها حالاً يوم السبت. وهنا يقابل جينيه هذه الرواية غير الصحيحة بما شاهده هو حيث تمركزت قوات الجيش حول مخارج المخيم، وقد رآهم بمنظاره يوم الخميس بمستشفى عكا.
كان الجيش اللبناني حليفا كريما اذ لا يردّ الاسرائيلي خائبا الا ونفّذ له ما يريد. فقد أخذ على عاتقه محو آثار المجزرة حتى أذيع للعالم الغربي أن ما حدث كان شأناً داخليا بين المسلمين والمسيحيين.
وقام بيغن حينها باعلان أمام الكنيست، يقول فيه: " أشخاص غير يهود ذبحوا أشخاصاً غير يهود، ففي أي شأن يعنينا ذلك؟"
يخلص جينيه الى أن القوات اللبنانية الجناح العسكري لحزب الكتائب اللبناني كان من نفذ المذبحة على شرف الاسرائيليين وهم يقيّمون الوحشية المحلية للبنانيين تجاه الفلسطينيين، فيقول: "ان حفلة وحشية جرت: سمر، نشوة، رقص، غناء، نداء، عويل، تأوّهات.. على شرف متفرّجين كانوا يضحكون وهم جالسون في الطابق الأخير من مشفى عكا".
الطبقية موجودة:
أكد جينيه من مشاهداته وشهادته واختلاطه مع الكبير والصغير، أن طبقية ما كانت مكرّسة وموجودة، لكن حتى الأغنياء كانت لديهم طريقتهم الناعمة في المقاومة ورفض ما قد جرى. وقد لمس جينيه ذلك بوضوح في حواره مع المرأة البرجوازية، التي آل حالها بالذهاب الى الملجأ مع الآخرين لكن برفقة خدمها، والطريف أنها ما انفكت تملي عليه أوامرها حتى في الحرب الجامعة!
عهد الوفاء:
ينهي جينيه مذكرته مصرّا على بعض الحقائق التي شاهدها وأخذ عهدا على كتابتها ونشرها ليتعاطاها الجميع. كان مصرّا على عهد الوفاء الذي سيظل يحمله لأصدقائه الفدائيين الذين استشهدوا بشاتيلا، وقد تعفنت جثثهم وانتفخت باسودادِ الموت، الا انهم سيظلون فدائيين.
أربع ساعات قضاها جينيه في المخيم، وقد ألحّ وهو خارج وعلى احد الحواجز الخاصة بالجيش اللبناني والدالة أنه يحرس مكان جريمته، على كتابة المذكرة، مصرّاً أن جميع الجثث التي شاهدها قد تعرّضت للتعذيب، وسط نشوة المعذبين وأغانيهم وضحكاتهم.
في لحظة ما بعد الخروج من الكابوس، شكك جينيه بسخرية مجنونة وكأن هلوسات ما اختلطت بما قد شاهده، بالكم الهائل من التعذيب الوحشي من انسان لأخيه، فأخذ بالتساؤل عما ان كان فعلا قد رأى ما رأى أنه كان ضرب جنون، أكان المخيم بكامل فظاعته موجوداً بالفعل؟ وان دل ذلك على شيء، فهو دليل البشاعة غير المتصوّرة في الذهن البشري، وعن مدى الألم الذي يجتاح النفس عند رؤيتها لهذه الفظاعة.
لقد كان جينيه أول أوروبي عرض الوجع الفلسطيني بعد مشاهدته في شاتيلا، وقد امتاز بايمانه بالفدائيين الذين لم يخشوا شيئاً. ان الشهادة التالية هي نوع من تسامي الجمال في مواجهة الموت المحتم، ولكن لم يكتب جينيه بلغة رثاء وعويل ونحيب، وانما بلغة اكتشاف بذاءة الموت بعري فاضح. وهنا تتقاطع في ذهني عبارة للروائية غادة السمان، حيث تقول: " لا يخشى الموتى رصاصة أخرى"، والفدائي يعرف نفسه أنه يقدم روحه قربان فكرة الحرية، وأنه قد يكون مشروع ميت مؤجل، انه الشباب اللامبالي بالموت. فهم متألقو الجمال وفاتنون بثوريتهم، " لم يكن الفدائيون يريدون السلطة، فقد كانوا يمتلكون الحرية".